مع كل صاروخ يسقط فيدمّرُ عمارات ويسويها بالأرض ومع كل قذيفةٍ تصيب عائلة فتقتل وتجرح أطفالًا وأمّهاتٍ وآباء أبرياء، يحتفل تجار الحروب بزيادة مبيعاتهم ومضاعفة أرباحهم. وحتى نفهم جيدا أسباب استمرار الحروب وعدم توقفها لابد من معرفة المصالح التي تتحقق من ورائها وتضخم الثروات المتأتية من جراء دعمها. ومنذ بدء الحرب الإسرائيلية ضد غزّة، شهدت الزيادة في العائدات اليومية لموردي الأسلحة الرئيسيين إلى دولة الاحتلال ارتفاعا قياسيا بسبب الطلب الإسرائيلي المتزايد على الأسلحة مدفوعا بالحملة الانتقامية العسكرية المكثفة على غزة؛ وهذا ما يفسر الارتفاع الضخم في أرباح شركات الأسلحة الأمريكية، وخاصة تلك التي تزود الدولة العبرية بالسلاح، حيث تشتري الأخيرة حوالي ٧٠٪ من أسلحتها من الولايات المتحدة. ويعلن الكيان الإسرائيلي المحتل بكل تحدٍ واستفزاز أنه استخدم أكثر من ١٠ آلاف قنبلة وصاروخ في قطاع غزة، ما يستلزم زيادة كبيرة ودون توقف لقدراتها العسكرية. وبالإضافة إلى ذلك، زادت احتمالات امتداد الصراع بين حماس ودولة الاحتلال إلى ما وراء الحدود مما يدفع إلى زيادة الطلب العالمي على القدرات والمعدات العسكرية.
وشهدت أسهم شركات السلاح ارتفاعًا في المؤشّر الأمريكيّ للشركات المختصة بالأمن والطيران (S&P Aerospace & Defense) بنسبة تراوحت بين ٥٪ و١٥٪ منذ الأيّام العشر الأولى للحرب ضد غزة، وفي مقدمة الشركات "لوكهيد مارتين" التي تزود الدولة العبرية بطائرات "أف ١٦" و"أف ٣٥" وصواريخ "Hellfire " وغيرها من الأسلحة والمعدات، حيث ارتفعت أسهمها في البورصة بأكثر من ١٠٪. مديرها التنفيذي، جيم تايكليت، تقاضى في العامين الأخيرين ما يتجاوز ٦٠ مليون دولار، إضافةً إلى أسهم بقيمة ٢٥ مليون دولار أصبح يمتلكها في الشركة. هذا الرجل المنتفع مباشرةً من الحرب هو عضو في إدارة مركز أبحاث "Council on Foreign Relations" وهو أحد المراكز الأشد تأثيرًا في القرار السياسيّ والعسكريّ في البيت الأبيض منذ بداية القرن العشرين. نفس هذا المجلس هو الذي سبق أن وضع الخطوط العريض لنقاط ويلسون الـ ١٤ في الحرب العالميّة الأولى، ثم وضع أسس خطة مارشال وحلف الناتو. وفي ٢٠٠٢، بعد غزو أفغانستان، نشر أحد مدراء المركز مقالًا "تاريخيًا" مخجلًا تحت عنوان "المحطّة القادمة بغداد"، ليُطلق مركز الأبحاث بعده حملة ضغط هائلة للدفع نحو احتلال العراق!
على نفس المنوال، أرسلت شركة الأسلحة الأمريكيّة "RTX" التي توفر الإمدادات الدفاعية مثل نظام القبة الحديدية وصواريخ " SkyHunter " تقريرًا للمستثمرين بعد أيام من حرب الإبادة على غزة، تحثهم فيه على تأييد المساعدات العسكرية الأمريكية للدولة العبرية. وكان من الطبيعي أن تجني الشركة ثمن هذا الدعم للكيان الإسرائيلي فترتفع أسهمها بنسبة ١٣٪.
ومن المهم أن نكشف اللاعبين الرئيسيين الذين يحركون تلك المصالح ويدعمون استمرار الحرب على غزة! جريج هايز الرئيس التنفيذي للشركة، هو أيضا عضو إحدى مجموعات الضغط "بزنس راوند تايبل" أو الطاولة المستديرة للبزنس، وهي من المجموعات الأشد تأثيرا على السياسة الأمريكية. ومن خلال منصبه في كل من الشركة ومجموعة الضغط يستطيع تأمين مصالح الطرفين. هذا المثال وغيره من الشركات لا تحقق فقط زيادة في المبيعات والأرباح وإنما تجري تجارب ميدانية في غزة لأنواع من الأسلحة الجديدة.
قد زادت فاتورة المساعدات الأمريكية العسكرية لإسرائيل لتصل إلى ما قيمته ١٤.٣ مليار دولار من إجمالي صادرات السلاح الأمريكية البالغة قيمتها ٢٢٢.٦ مليار دولار، إلى جانب "هدايا" إضافية من طائرات ومعدات كلها تصب في مصلحة شركات صناعة الأسلحة واستثماراتها وأرباحها وأسهمها. وها هي شركة "BlackRock"، أكبر مؤسسة إدارة استثمارات في العالم بقيمة سوقية بلغت نحو ٨ تريليونات دولار في يناير ٢٠٢٣، تجني المزيد من الأموال جراء الحرب على غزة، خاصة أنها تملك استثمارات تتجاوز ١٣ مليار دولار في ثلاث شركات كبرى للأسلحة الأمريكية، ومليارات غيرها بشركات تصنيع أسلحة محرّمة دوليًّا، كالفوسفور الأبيض والقنابل العنقودية، التي يُستعمل في الحرب الحالية على غزة.
وهذا التشابك في المصالح لا يتوقف في مراكز صنع القرار الأمريكي التي لا تنفك في المقابل تعطي دروسا عن مقاومة الفساد في الدول النامية. على سبيل المثال وليس الحصر، المدير العام لمعهد الاستثمار في شركة "بلاكروك" هو ثوماس دونيلون، وهو أيضا زوج كاثرين راسل، المديرة التنفيذيّة لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة. ومع ذلك لم نسمع تعليقًا من مسئول أمريكي أو حتى من وسائل الإعلام هناك عن وجود شبهات حول تضارب المصالح بين منصب الزوجين؛ وهو ما يلقي شكوكا على مهمة "راسل" في المنظمة ودورها في العمل على حماية الأطفال في غزة الذين يتم إبادتهم!
وهكذا فإن الأهوال التي تشهدها غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي من تطهير عرقي وتدمير قد أبرزت الواقع القاسي للصراع المتشابك بين المكاسب الاقتصادية الأمريكية من جهة والمأساة الإنسانية للفلسطينيين من جهة أخرى؛ وهو بمثابة تذكير صارخ بالأسئلة الأخلاقية العميقة حول العلاقة بين الصراع العالمي المحموم والاقتصادات التي تستفيد منه بشكل مباشر وغير مباشر. وهذه ليست مجرد قضية تتعلق بديناميكيات السوق؛ إنها قضية أخلاقية أولا وتتطلب إعادة تقييم جدية لتجارة الأسلحة العالمية وآثارها على السلام والأمن الدوليين. ولا يمكن أن نأمل في تحقيق سلام عادل للفلسطينيين في ضوء هذه الخلفية القاتمة من المصالح المسمومة. فلك الله يا غزة!
آراء حرة
شركات السلاح تضاعف أرباحها من ضرب غزة!
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق