تكمن القوة الحقيقية للمنصات الرقمية في القدرة على تحقيق التواصل المباشر بين البشر دون حواجز مكانية أو زمنية أو قيود على الحرية؛ إذ تطمس الخط الفاصل بين وسائل الإعلام والجمهور، على الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي هى نوافذ للتغيير الثقافي ووسائل لتحقيق الوعي السياسي – أو هكذا ينبغي أن تكون – كما كان ينبغي أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي الشعلة التي تنير طريق الحرية والديمقراطية. إلا أن هذه المنصات أسهمت بقدر كبير في تزييف الوعي وتغييبه، والتلاعب بمشاعر الناس.
وقد بات هذا التلاعب - الذي يخرج عن كل سيطرة - يؤثر بشكل فعَّال في توجهات الرأي العام، باستخدام فقاعة التصفية، التي لا تحاول خلق سياقات جديدة من المعلومات للجمهور المتلقي، بل تحاول استعمال مخزونهم المعرفي والتحكم بهم بواسطته. وتركيز انتباه مستخدمي الإنترنت على المحتويات التي تتوافق مع اهتماماتهم فحسب، وتعزلهم عن كل فكر مخالف، وتقلل من أهمية تنوع الثقافات. بل تحارب كل فكر حر أو مختلف بوصفه غزوًا ثقافيًا. ويمكن أن تستخدم ديناميكية التصفية حسب المصلحة، وتعمل على استقطاب الرأي العام بسبب الطريقة التي تقيد بها انتباه المستخدمين على المحتوى، الذي يتوافق مع وجهات نظرهم الأيديولوجية الحالية مع عزلهم عن وجهات النظر البديلة. إن التداعيات السياسية المنهجية لاتجاه فقاعة التصفية يمكن أن يكون لها تأثيرًا تعبويًا، تستهدف استقطاب المجموعات المتشابهة في التفكير من الأشخاص الذين لديهم وجهات نظر متشابهة.
من الواضح أن البروباجندا الرقمية تؤدي دورًا مهمًا في نشر الأخبار الكاذبة والأفكار الزائفة، وهذا لا يعفي مسئولية المستخدمين – بطبيعة الحال - عن انتشار المعلومات المضللة عبر الإنترنت. إن عملية نشر الأفكار المضللة والأخبار الكاذبة والشائعات المغرضة، تتأكد إذ أن وسائل التواصل الحديثة قد عززت من قدراتها على الانتشار على نطاق واسع وبسرعة رهيبة. وقد جعلت هذه الوسائلُ التلاعب في المحتوى وتصنيعه أمرًا يسيرًا، وتحرص الشبكات الاجتماعية على تضخيم الأكاذيب والترويج لها على نطاق واسع؛ بحيث يتناقلها جمهور لا يميز الغثّ من السمين. وقد عملت وسائل التواصل الاجتماعي على تغذية أنواعٍ كثيرة من المحتوى، تتراوح من الشخصية إلى السياسية. وهناك كثير من المحتويات التي تنتجها علانية أو سرًا الحكومات أو شركات العلاقات العامة بموجب عقد مع الجهات الفاعلة في دوائر السياسة أو الأعمال. ونتيجة لذلك يحرص عدد لا يحصى من المدونين أصحاب التأثير الواسع على الترويج لمنتجات فاسدة وسياسات ضارة وأفكار مضللة.
تقدم الخوارزميات الرقمية للأفراد المعلومات التي تدعم وجهات نظرهم القائمة ويتجنبون وجهات النظر المعارضة؛ مما يسفر عن تدعيم المعتقدات الحالية للأفراد والجماعات، وتتمثل النتيجة في تَجْزِيئِ المجال العام؛ إذ ينقسم إلى مجموعات كل منها تتحصن داخل إطار أفكار ومعتقدات معينة، وكل فرد يدعم وجهة نظر الآخر، أو يمثل صدى للآخر في العالم الافتراضي؛ مما يسمى بـ«غرف الصدى» Echo Chamber. ويزيد الأمر اشتعالًا في وسائل التواصل الاجتماعي تفاقم مشكلة «غرف الصدى» حيث تنقسم المجموعات المتشابهة إلى مجتمعات فرعية يثير خلالها الأفراد المتشابهون في التفكير بعضهم بعضًا في اتجاه الآراء الأكثر تطرفًا بدون أن يواجهوا بالآراء المضادة، ومن ثم فإن الآراء التي تتشكل في «غرف الصدى» تكون مستقطبة ومتطرفة، قد يخلق مناخًا جيدًا لتعزيز «حرب الخنادق» Warfare Trench إذ يتفاعل الناس ويشاركون في النقاش مع آخرين يتبنون وجهات نظر متعارضة، ولكن هذا لن يؤدي إلا إلى دعم معتقداتهم الأولية وتعزيزها.
د. دعاء حسن: دكتوراه في الفلسفة السياسية
آراء حرة
وسائل التواصل الاجتماعي وتزييف الوعي
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق