لو علم صاحب دكر البط المزغط، أن مصيره في محل أدب تلك الأسرة، لربما تردد كثيرًا، واقنع زوجته بعدم تزغيطه ولا الاهتمام به من الأساس، ولو علم الدكر نفسه، ربما قاوم بلع الفول الذي مدد حويصلته كبالونة، ورفرف بجناحيه، ودبدب برجليه اعتراضًا على الطعام الإجباري، لكن لو، لو تعلمون مؤلمة.
نذرت الفلاحة دكر بط للكنيسة، أمام صورة أبي سيفين المعلقة في بوص الزربية، كأنها تُشّهده عليها،
- شالله يا أبو سيفين، الواد يخف م الحصبة وليك دكر بح، بس البحيات يعيشوا يا أخويا!
بهت لون الحناء على جسد طفلها، خففت الملابس الحمراء من عليه شيئا فشيئا، لم تعد تلفه في الحصير كما كانت تفعل طوال الأيام الماضية، لكنها استمرت تسقيه شوربة فروج أسود غطيس من عندها ومن عند الجيران، الناس لبعضيها، ومحلتهاش غيره، ربنا شحتهولها على كبر،
قرب موعد الوفاء بالنذر للشهيد، تغاضت سارة عن فقد بطة أو أثنتين،
- مش هنقف له على الواحدة،
اختارت أفضل البط، ليحظى بمنح إضافية، عزلته في خزانة بعد أن فرشت أرضيتها بتربة ناعمة، طاجن مهتوم الحواف، تغسله وتزوده بالماء كل يوم، يلهو بقطع صغيرة من كسر القوالب الحمور، يجمعها بمنقاره في وسط الطاجن كجزيرة؛ ليقف عليها في زهو، يمد عنقه إلى كسرولة بها عيش مدشوش، ويبّلع بالماء، إن أراد الذرة الرفيعة، عليه أن يتحرك عدة خطوات بعيدا عن الماء، بالإضافة إلى وجبات الفول الثلاث الإجبارية، قلّلت سارة من علاقاته البطيّة، وإذا وافقت، تقف تراقبه وهو يحوم حول الأنثى راقصا، فرحا، يغمس منقاره في الماء رافعا ذيله بزهو، يضع منقاره تحت جناحه، ثم تحت جناحها، ربما ليأخذ الأذن باعتلاءها، يحتويها بالتربيت برجليه على ظهرها، وبمنقاره يدغدغ عنقها، ترفع ذيلها لأقصى درجة، يصدر صوتا كالهمس بسر ما، يقابل مثقابه فتحتها، يصيب حقيقتها، ثوان وينزلق من على ظهرها، منتشيا يذهب لجزيرته، تأخذ سارة البطة زي الكتكوت الغرقان، قبل أن يلملم حليله الحلزوني، تعطيها لجارتها المنتظرة عند باب الزربية،
- ربنا يطعم.
- كسرها حلو؟!
- دكّها، يا أختي، قدام عيني.
وأحيانا تدخل سارة بالبطة، دون أن تقربها منه، ربما خوفا على صحته، أو خوفا من الحسد، وربما وقت دورتها هي الشهرية.
- والنعمة، الموكوس، ملوش نفس خالص.
كلما حكت لإبراهيم حركات الدكر الرومانسية، وبطريقتها أكثر رومانسية، انتهت بهم الحكاية إلى نفس الخزانة، بشفتيه يدغدغ رقبتها؛ فترفع ذيل جلبابها.
***
انتهت فترة الرفاهية وجاء وقت الوفاء بالنذر، ينظر المنذور من داخل قفص جريدي - يظهر ريشه من ثلاث جهات - من على إرتفاع حمار بالبردعة، رد البط والفراخ على صيحته مودعين له قبل أن تغلف سارة القفص بجلابية بها رائحة عناء إبراهيم وبقع البرسيم وروث البهائم، نهقت الحمارة ونعرت البقرة وهوهو الكلب، نوت القطة، وصرخ الطفل
- حطي شوية ربيع للبهايم.
- شبعانين، دول بس بيودعوا المحروس.
لم يعلم عم إبراهيم وهو يبردع حمارته استعدادا لمقابلة أبونا، أنه لن يجده، وإلا كان وفر المشوار والبردعة، واكتفى بالمرشحة ليحضر وسق برسيم للبهايم، لكن أنقذه من العودة بدكر البط، عم إسحق القرابني، جار أبونا، أعطى إبراهيم قربانة كبيرة من الحَمَل نيابة عن أبونا الغائب، دفنها بلفتها في الجلابية في وسط القفص، دخل إسحق بدكر البط على زوجته وأولاده، واطلقه في المجاز، شغل حيزا من المكان وحيزا أكبر عقل العائلة، تسلق الأطفال سقف جارتهم، بعد الاستئذان، ليجمعوا بعض حبوب الذرة الشامية، للحفاظ على صحة المحروس، كما أطلقوا عليه، قرر إسحق أنه سيعترف لأبونا، فيما بعد، لأنه أخذ قدر من القمح المخصص لعمل القربان من أجل المنذور،
قلّما لعب الأولاد في الشارع بعد استضافة المحروس، يوفرون من وجبتهم لإطعامه، شاركهم لعبة استغماية، لكن على طريقته، في بادئ الأمر كانوا يطاردونه، فيجري خوفا كأنه يقول
- يا أولاد المجانين.
يقهقهون عندما يرفرف، تضرب أجنحته في الأرض، يتعب من الجري، يبطأ، يتوقف ليلتقط أنفاسه، يهبشهم بمنقاره، يجري الأطفال أمامه، فيطاردهم، تحميهم رفقة منه، فينقر الجزء المكشوف من ساقها، يقهقه الأطفال، تحمسوا للعبة، قدم صغيرة حافية دهسته، ساد الصمت، مد المحروس رجله، نط برجل واحدة، وجر الأخري وجناح، وبدأ يلف في حركة دائرية مركزها الجناح المكسور، كفت رفقة فوقه طشت، وخبطت عليه،
- مفيش فايدة، كده خلاص هيموت، هاتولي سكينة نحلله.
سمت بسم الصليب، على اسمك يا أبو سيفين.
وجبة من السماء ملأت بطونهم، أكلها الأبناء في فرح بطعم الحزن، وأكلها الآباء في يقين بطعم الشك،
سيطر على تفكير إسحق هاجس - بعد عودة الكاهن الغائب- كلما دق جرس الكنيسة للقداس، يلف في حركة دائرية حول نوافذ القبة المطلة على صحن الكنيسة، يدقق السمع في كلام أبونا متوقعا أن يسمع من أبونا في العظة قصة الذبيح والنذور التي لم تصل إلى مستحقيها.