نحن جهلاء، لكننا لا نعرف أننا كذلك؛ بل نفخر بجهلنا ونعتز، ظنًا منا أن ما نملكه من علم إنما هو العلم الذي ينفع، أما العلوم التي توصلت إليها المجتمعات المتقدمة في أوروبا وأمريكا، فهي علوم لا تنفع. نحن في واقع الأمر بإزاء حالة من «الجهل المُرَكَّب»، وهو مختلف تمام الاختلاف عن «الجهل البسيط». فالمرء الذي يدرك أنه جاهل ويسعى للتخلص من جهله ساعيًا لتحصيل العلم والمعرفة؛ فإن جهله في هذه الحالة يكون جهلًا بسيطًا يسهل التخلص منه. أما صاحب «الجهل المُرَكَّب» فمن العسير، إن لم يكن من المستحيل، الخلاص مما هو فيه من جهل وتخلف، وذلك للأسباب الآتية:
أولًا: هو لا يدرك أنه جاهل، ولا يعترف بأنه كذلك؛ بل على العكس، إنه يؤمن إيمانًا جازمًا بأنه يملك من العلم ما لا يملكه غيره.
ثانيًا: إنه يعيش حالة من الرضا بجهله والاعتزاز به؛ اعتقادًا منه أنه على حق وكل من يخالفه على باطل. ويملؤه الشعور بالتفرد لظنه أنه من الفرقة الناجية التي فازت بخير الدنيا وثواب الآخرة، إنه على يقين من امتلاكه الحقيقة المطلقة، ولا يساوره أدنى شك بصحة ما يعتقد، وتغمره الغبطة ويختال فخرًا بما يملك!
ثالثًا: إن اغتباطه بجهله، واعتقاده بأنه دومًا على حق؛ يمثل أقوى حائط صد في وجه أي تقدم أو رقي.
رابعًا: الجاهل جهلًا مركبًا نشأ خلال سنوات عمره الأولى في ظل بيئة أكسبته منذ الصغر كثيرًا من الأفكار المعتمة والقيم المتدنية والتوجهات الخاطئة.
خامسًا: إن «الجهل المُرَكَّب» لا يضم البسطاء من عامة الناس فحسب، بل يضم تحت مظلته أيضًا – وعلى نطاق واسع – شخصيات، تبدو للوهلة الأولى، أنها تملك علمًا غزيرًا، منها من هو أستاذ جامعى وطبيب ومهندس ومحامٍ... إلخ. في حين أن النظرة المدققة الفاحصة تكشف أن الجهل المُرَكَّب يشكل البنية العقلية لهذه الشخصيات. فنجد أستاذًا في العلوم النووية بإحدى الجامعات المصرية أو العربية، لا يقل حنكة وعلمًا عن نظيره الأمريكي أو الإنجليزي، في حين أن صفحته على الفيسبوك – مثلًا – تكشف عن جهله المركب المتمثل في انقياده الأعمى ويقينه المطلق بصحة آراء وأفكار ومعتقدات عفَى عليها الزمن.
سادسًا: إنه من العسير إن لم يكن من المستحيل أن يتخلى صاحب الجهل المُرَكَّب عن معتقداته التي نشأ وتربى عليها في سنوات عمره المبكرة، وهو يتوهم أن تلك المعتقدات التي يؤمن بها إنما اعتنقها وآمن بها بعد تأمل طويل وعميق، وأنه توصل إلى هذه المعتقدات بنفسه، بل قد يصل الحال بذلك الشخص إلى الاعتقاد الجازم بأن أفكاره ومعتقداته واضحة وضوحًا ذاتيًا، وأنها ترقى إلى درجة البديهيات والمسلمات بسبب ما تتحلى به – في نظره – من وضوح وصواب؛ ولهذا السبب فإن العلوم التي يتلقاها بعد ذلك في المدارس والجامعات تبقى طلاءً خارجيًا لا تأثير له على جوهر بنيته العقلية والوجدانية والأخلاقية، ومهما حصَّل من معارف وعلوم يظل جهله مركبًا.
سابعًا: ليس من الصواب وصف صاحب «الجهل المُرَكَّب» بأنه «متخلف»، لأن مفهوم «التخلف» يعطي انطباعًا مضللًا بأن صاحب «الجهل المُرَكَّب» يسعى للخروج من حالة الجهل التي هو عليها، كي يلحق بأصحاب العلم والمعرفة الذين سبقوه. وهذا عكس الواقع إذ إنه يدور في المكان نفسه؛ راضيًا بجهله سعيدًا به، ولا يرغب في التخلص منه؛ لذلك يبقى حيث هو. إن صاحب «الجهل المُرَكَّب» يعيش حالة أدنى من حالة التخلف، ويُعَد «التخلف» مرحلة أفضل، حيث إنها متقدمة قياسًا بحالة الدوران الثابت والتمحور حول الذات، والتي لا يتجاوز فيها صاحب «الجهل المُرَكَّب» مكانه. ومهما زعم أنه منكب على مكتبه يقرأ ليل نهار؛ فسيظل أقرب إلى الحمار الذي يحمل أثقالًا.
ثامنًا: إن صاحب «الجهل المُرَكَّب» الذي يُظْهِر عجزًا دائمًا عن اكتساب الروح النقدية، ويعيش حالة ركود عقلي مستمر، أو يعيش تقهقرًا متصلًا عن مسيرة الحضارة العالمية، لا يستحق أن يُوْصَف بأنه «متخلف»؛ لأن هذا الوصف ينطوي على كثير من المدح والمجاملة، وتزييف الواقع وتجميل الصورة.
تاسعًا: إن وصف صاحب «الجهل المُرَكَّب» بالتخلف يوحي بحرصه على التقدم نحو الأمام، فكأن المتخلف يركض نحو الأمام ليلحق بمن سبقه؛ لكنه لم يتمكن بعد من اللحاق به، وهذا يشير إلى أنه سوف يلحق به في وقت لاحق. وإذا كان هذا الوصف يصدق – مرةً – على الحالة الفردية الخاصة بالشخص صاحب «الجهل المُرَكَّب»، فإنه يصدق – مرات – على واقع حال مجتمعاتنا العربية والإسلامية. يكمن الوهم والضلال في أن وصف هذه المجتمعات بأنها «متخلفة» يوحي بأن المتقدمين والمتخلفين ينطلقون من نفس المنطلقات، وأنهم يسيرون معًا في الطريق نفسه، وأن لهم الرؤى نفسها، وأنهم يسعون لتحقيق الأهداف ذاتها، وأن قيمًا واحدة تحركهم جميعًا، وأن كل ما في الأمر أن المتقدمين سبقوا غيرهم في بداية الركض، وأن هذه الميزة هى التي مكنتهم من السبق، وأن الزمن كفيل بأن يطوي هذا الفارق. لكن أية مراجعة لثقافات الازدهار التي تتحلى بها المجتمعات المتقدمة، وثقافات الركود التي تجثم على صدور مجتمعاتنا العربية؛ تكشف بأن الاختلاف بين المزدهرين والمتخلفين ليست كمية وإنما هي كيفية، إن التخلف لا يعود إلى التأخر في بداية الانطلاق؛ وإنما يرجع إلى الجهل بنقطة البداية أو الرفض الصريح أو الضمني لهذه البداية. (إبراهيم البليهي، حصون التخلف – موانع النهوض في حوارات ومكاشفات، ص ص 148 – 149)
إن حالة «الجهل المُرَكَّب» ليست حالة عابرة، وإنما هى بنية قوية متماسكة تملك من الصلابة والرسوخ، ومن متانة التحصينات وقوة الرفض ودوام المقاومة ما يضمن لها القوة والاستمرار، إنها تغلق الأبواب والنوافذ وتوصد الأذهان والوجدان، وتحرس نفسها حراسة مشدَّدة لا تسمح للضوء أن ينفذ، ولا للفكر أن يستيقظ، ولا المعرفة أن تنمو، فيبقى الناس سعداء بما هم عليه متوجسين من حسد الحاسدين وكيد الحاقدين وتآمر المتآمرين، هكذا يتوهم من يظنون أنهم خير أمة أخرجت للناس، وأن أوروبا وأمريكا هي مجتمعات فاسدة ومنحلة. إن المجتمع المتخلف يرى أنه البقعة المضيئة في الأرض، وأن غيرها من المجتمعات الأخرى؛ حتى أشدها ازدهارًا تعيش في ظلام حالك، وأنها تختزن حقدًا متأججًا وتتمنى طمس هذا الضوء الاستثنائي. وبهذا الاغتباط الغامر بما هو قائم؛ يستحيل على المجتمع المتخلف أن يتزحزح عن مواقعه أو أن يتقدم، بل إن حركته - إن حدثت - فإنها تكون في الغالب نحو الخلف والمزيد من تقوية استحكامات بنية التخلف، والانكفاء على الذات، ومواصلة تأكيد أوهام التميز والتفرد، والإصرار على تعليق العجز على مؤامرات الأعداء؛ لتبقى الذات بريئة من الخطأ والتقصير. (المرجع السابق، ص 149)
بقى أن نقول إننا فى مسيس الحاجة لفحص أفكارنا ومعتقداتنا فحصًا نقديًا، كى نفهم مصدر تلك الأفكار القابعة داخل رؤوسنا، من أين جاءت؟ وكيف تكونت؟ وهل نحن الذين نملكها أم هي التي تملكنا؟ وعلينا أن نفرز الصائب من الباطل منها، ونميِّز بين الجيد والرديء. فإذا كانت الفكرة جيدة نُبْقِيها، أما إذا كانت رديئة فنطرحها جانبًا؛ لأن أفكارنا ومعتقداتنا هي التي توجه طريقة سيرنا: إما إلى سكة السلامة أو إلى سكة الندامة.