منذ أكثر من شهر، أصبح الوضع السياسى والاقتصادى والعسكرى أكثر صعوبة، ولا يمر يوم دون أن تنشر وسائل الإعلام الغربية اكتشافات جديدة تظلم الصورة إلى درجة التشكيك فى بقاء النظام الأوكرانى ورمزه الرئيس فولودومير زيلينسكي.
وبينما أعلن زيلينسكى قبل بضعة أسابيع عن تأجيل الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها عام ٢٠٢٤ إلى أجل غير مسمى، مما أثار حفيظة قائد الجيش الأوكراني، الجنرال زالوزنى الذى رأى نفسه مرشحا بالفعل حيث استعان بعمدة كييف، المشهور إعلاميا فيتالى كليتشكو، ليشن هجوما ضد الرئيس الأوكرانى فى أعمدة مجلة دير شبيجل بإعلانه فى ٢ ديسمبر أنه لن يكون هناك أى اختلاف بين روسيا وأوكرانيا قريبًا لأن كل السلطة أصبحت الآن مركزة فى يد شخص واحد!
ويؤكد كليتشكو هذه النقطة من خلال اتهام زيلينسكى بالكذب على السكان بشأن فشل الهجوم المضاد الأوكرانى الذى بدأ فى يونيو الماضي. ومع ذلك، فى وقت واحد تقريبًا، فى ٣٠ نوفمبر، اعترف زيلينسكى علنًا أنه سيكون من الصعب الآن إعادة احتلال أو استعادة المناطق الانفصالية فى دونباس مقارنة باستعادة شبه جزيرة القرم وفى الوقت نفسه، أمر بتعليق أى هجوم كبير وطلب من الجيش الأوكرانى ترسيخ مواقعه بقوة حتى لا يتخلى عن شبر واحد من الأرض فى مواجهة عودة القوات الروسية الهجومية لعدة أسابيع.
وفى مواجهة هذا الوضع السياسى الفوضوى تزيد الإعلانات والتصريحات الروسية بشأن الخسائر الأوكرانية من قتامة الصورة. ونشرت قناة "رايبار" الروسية على تلجرام، فى الأول من ديسمبر، تقديراتها التى تتحدث عن خسائر مادية ومعنوية ضخمة؛ منها ٥٣٦.٨٥٤ خسائر غير قابلة للتعويض (٢١٤.٨٨٣ قتيلًا و٦٢.١٤٨ مفقودًا). وحتى لو كان من الصعب إعطاء مصداقية مطلقة لهذه الأرقام مقارنة بـ ٦٠-٦٥ ألف حالة وفاة مسجلة على الجانب الروسي، إلا أنها تعطى فكرة عن نسبة الخسائر بين المعسكرين وخطورة الوضع فى أوكرانيا ذات الكثافة السكانية الصغيرة مقارنة بروسيا.
الضربات الروسية
على الجبهة، يستمر الوضع فى التحول ببطء ولكن بثبات لصالح الروس الذين يقومون بالهجوم فى قطاع أفدييفكا وباخموت وكريمينا كوبيانسك بشكل مستمر منذ بداية الخريف. وشهد الأسبوع الماضي، بشكل خاص الاستيلاء على مارينكا، التى ليست أكثر من مجرد حقل من الأنقاض، بعد قتال عنيف فى المناطق الحضرية منذ نهاية مارس ٢٠٢٢. وفى الوقت نفسه، تم تشديد الخناق حول أفدييفكا وقام الروس بسكب أطنان من القنابل لطرد المدافعين، خاصة فى المنطقة الصناعية فى الشمال. ويبدو أن معنويات المقاتلين الأوكرانيين تضررت بشدة، بحسب مقاطع الفيديو العديدة التى نشرها هؤلاء الرجال على تيلجرام للتنديد بوضعهم اليائس، ولا سيما عدم وجود دعم عسكرى لوقف الهجمات الروسية. وفى قطاع بخموت يتواصل القتال فى شمال وجنوب المدينة.. وفى هذه المنطقة يواصل الروس عملهم؛ ففى ١ ديسمبر، زعم الروس أنهم سيطروا على كروموف فى الشمال بينما اقتربوا من كليششيفكا فى الجنوب. وفى قطاع كريمينا، تم أيضًا احتلال قرية تيمكوفكا فى الأول من ديسمبر.
وفى النهاية، يبدو بوضوح أن ما يقرب من مائة من مشاة البحرية الأوكرانية المتمركزين فى رأس جسر كرينكى على الضفة الجنوبية لنهر الدنيبر يتعرضون لقصف مستمر من المدفعية والطائرات الروسية، مما يمنعهم من تلقى التعزيزات والخدمات اللوجستية ويدفعهم لإخلاء المنطقة.. لقد باءت بالفشل كل المحاولات التى تهدف إلى إقناع الغرب بأن الجيش الأوكرانى قادر على فتح جبهة نشطة جديدة فى هذه المنطقة. باختصار، أصبح الوضع على الجبهة أكثر خطورة، أثرت هذه الهجمات على معنويات المقاتلين فى حين يتركز اهتمام السكان بأخبار البحث عن المفقودين.
طعنة فى الظهر؟
بعيدًا عن النكسات العسكرية والمشاكل السياسية الداخلية الكبرى، فإن الخطر الأعظم الذى يهدد مستقبل أوكرانيا يأتى من الخلف، وبشكل خاص من واشنطن. بعد نشر مقال فى صحيفة "واشنطن بوست" يحمل كييف المسئولية الهجمات التى وقعت ضد نورد ستريم ١ و٢ فى كييف، ونشرت الصحيفة الأمريكية الكبرى كل ذلك فى مقال بتاريخ ٤ ديسمبر. وهذه المرة يتعلق الأمر بتبرئة الولايات المتحدة وحلفائها فى حلف شمال الأطلسى من فشل الهجوم المضاد الأوكراني. وفى الواقع، وفقًا للصحيفة، لم يستمع الأوكرانيون إلى النصائح الحكيمة الأمريكية حول تخطيط وتنفيذ الهجوم المضاد، وهو ما يفسر هذا الفشل الكبير! والأسوأ من ذلك أن الأوكرانيين، وخاصة زالوزني، متهمون بالتمسك بالتراث العسكرى السوفييتي، الأمر الذى لم يسمح لهم بالانتصار. عندما نعلم أنه من الناحية التكتيكية، تم تدريب الجيش الأوكراني، على الأقل حتى رتبة لواء، على نموذج الناتو منذ عام ٢٠١٥، وفى الحقيقة، مثل هذه الاتهامات تثير تساؤلات حول دوافعها الخفية وإضافة إلى كل ذلك، لم تنجح عناصر الجيش الأوكرانى من الاستفادة من المواد التى قدمها الناتو بالشكل الأمثل. وهنا نتساءل عن سر هذه الرؤية الأحادية المحدودة للغاية؛ التى تتجاهل عمدًا التأكيد على أنه منذ عام ١٩١٦ لم ينجح أى هجوم برى كبير فى اختراق الخطوط الدفاعية القوية دون تفوق جوي.
وفى الوقت الذى خاطب زيلينسكى أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكى عبر الفيديو فى ٥ ديسمبر، عشية التصويت على حزمة مساعدات أمريكية جديدة، فإننا ندرك أن هذه المقالات تأتى فى الوقت المناسب تمامًا لإقناع المترددين بأن وقت الدعم غير المشروط لأوكرانيا قد انتهى الآن.. ورغم تأكيد واشنطن أنها لن تتخلى عن حليفتها، إلا أنه من المحتمل ألا يكون لديها الوسائل لدعمها، عسكريا بشكل فعال، حيث إن طائرات الشحن الأمريكية المحملة بالذخائر تتجه الآن نحو إسرائيل. وأمام هذا التدهور فى قدرة الجيش الأوكرانى وسلطته السياسية على البقاء فى مكانه والإمساك بالجبهة، نتطرق إلى التساؤل والحديث عن انهيار داخلى للبلاد، سواء على النموذج الألمانى لعام ١٩١٨، أو على النموذج الجنوبى الجنوبى كما حدث عام ١٩٧٥.
سيلفان فيريرا: حائز على درجة الماجستير فى التاريخ.. وهو مؤرخ متخصص فى فن الحرب فى العصر الحديث.. وصحفى مستقل له تاريخ حافل فى التدريب وإدارة الأحداث والتحرير والخطابة والكتابة الإبداعية.. ألّف العديد من الكتب المرجعية عن الحرب العالمية والحرب الأهلية.. وهو أيضًا مستشار لسلسلة وثائقية تليفزيونية.. يكتب حول الأزمة التى تواجهها أوكرانيا أو ما يسميه "الانهيار القادم".