في درب قرمز، المتفرع من شارع المعز في تلك الليلة الباردة من ديسمبر 1911، كان المنزل المواجه لقسم شرطة الجمالية يشهد ولادة استثنائية. كانت السيدة فاطمة قشيشة تعاني ألم المخاض، والوضع كان صعبًا بشكل لا يُطاق، بعد أن توقفت عن الإنجاب لمدة عشر سنوات. بعد جهود استثنائية من الدايات ومع استمرار تعثر الولادة، قرر عبدالعزيز إبراهيم اللجوء للطبيب.
كانت هذه الليلة مفصلية لأنها شهدت ولادة الطفل الأخير في عائلتهم. بفضل الطبيب الماهر الذي استجاب للنداء في تلك اللحظات الحرجة، نجح في إنقاذ حياة والدة الطفل وابنهما الصغير. لهذا الطبيب الذي أتقن المهمة الصعبة، قرر عبدالعزيز أن يُكرمه بإطلاق اسمه على المولود، نجيب محفوظ.
نجيب نشأ في هذا المنزل البسيط، وكانت أمه ركيزة حياته، إذ كان أصغر أبنائها وكما يعبّرون اليوم "آخر العنقود". في سن مبكرة، تلقّى دروسه الأولى في القرآن الكريم، والتحق بمدرسة قريبة من منزله. كان نجيب شغوفًا بالحكايات والقصص، فكان يستمع إلى الشاعر الذي يروي الملاحم الشعبية في أحد المقاهي القريبة.
أول قصة قرأها نجيب كانت بعنوان "مغامرات ابن جونسون"، ومن هنا بدأت رحلته مع القصص والحكايات. لم يكتف نجيب بدور المتلقي فحسب، بل بدأ يُعيد كتابة تلك القصص، وغيرها، ويعيد صياغتها بطريقته الخاصة، ويوقع عليها بـ "بقلم نجيب محفوظ". فمثلا، حول "الأيام" لـ طه حسين إلى "الأعوام"، والنظرات والعبرات لـ المنفلوطي وصمم عليها "الحسرات".
ميلاد نجيب محفوظ في ضرب قرمز يمثّل بداية الرحلة العظيمة لأحد أبرز الأدباء في تاريخ مصر والعالم العربي. وُلِد نجيب محفوظ في منزل بسيط في ضرب قرمز، هذا المكان الذي أطلَّ منه على العالم وشهد بداية حياته.
تأثير مكان الميلاد على الأديب لا يقتصر على جوانب البداية البسيطة فحسب، بل يمتد إلى تأثير عميق في أدبه ومنجزاته الأدبية. ضرب قرمز، هذا الحي الشعبي الصاخب والمليء بالحكايات والثقافة، كان مصدر إلهام لمحفوظ.
منذ الصغر، عاش نجيب في بيئة غنية بالتراث والحكايات والتجارب اليومية للناس في الحارة. تلك القصص البسيطة من حياته اليومية ومشاهد المجتمع الذي نشأ فيه، أصبحت جزءاً لا يتجزأ من كتاباته.
رغم أنه انتقل إلى مناطق أخرى لاحقًا، إلا أن ضرب قرمز بقي مصدر إلهام دائم له. كانت الأحداث والشخصيات التي عرفها هناك تجدها متجذرة في رواياته وقصصه، حيث استخدمها ليصور الحياة الشعبية وينقل صورة حية عن الحياة في مصر.
ميلاده ونشأته في هذا الحي الشعبي أعطت أعماله الأدبية نكهة خاصة، فتفاصيل الحياة اليومية والمشاعر والصراعات التي شهدها هناك كانت موضوعات مهمة في كتاباته. استطاع أن يلمس الجمال في البساطة ويروي قصصاً تختزل جوهر الحياة في المناطق الشعبية.
إن تأثير ميلاده في ضرب قرمز لا يقتصر فقط على مجرد المكان الجغرافي، بل يمثل تجسيدًا لروح وثقافة وعوالم الناس البسطاء التي أصبحت جزءًا من شخصيته وإبداعاته الأدبية التي استمرت في إلهام الأجيال.