استكمالًا لما تم طرحه في مقالنا السابق، نؤكد أن معالجة مصر هذه المرة للقضية الفلسطينية جاءت مختلفة؛ حيث قامت بفضح المخطط الصهيوني أمام الرأي العام المحلي داخليًا، وفضحه خارجيًا. كما انتهجت - على نحو ما ذكرت - منهج مصارحة الشعب المصرى ومكاشفته، وتخييره بين الخطرين. كما جاءت الوسائل الإعلامية المصرية متسقة مع هذه الحالة من المكاشفة. ترتب على ذلك التحام الرأى الشعبي المصرى مع رأى القيادة السياسية، فتكونت رؤية مصرية موحدة، شعبيا ورسميا، تمثلت في مواجهة هذا المخطط، والاقتناع بأهمية عدم فتح معبر رفح إلا أمام المساعدات الإنسانية. هنا سقط أول قناع كان يرتديه المتاجرون بالقضية. وعندما خرج أحد الرؤساء مكررًا شعاراته الجوفاء، لم تلقَ الصدى والهتاف المعهود، بل صفق الجميع للموقف المصري، الذي اتسم بالمصداقية والهدوء وعدم استغلال القضية. مع مرور الوقت بدأ العالم يقتنع بوجهة النظر المصرية، ثم كان ذكاء السياسة المصرية عندما رتبت لزيارة أمين عام الأمم المتحدة لمعبر رفح، بعد تدشين حملة إعلامية حول زيارته، فصار شاهد عيان صوتا وصورة، خاصة بعد أن شعر بالحرج، فما الذي يمكن أن يقوله وكل العالم بتابع عجزه هو شخصيًا عن مساعدة المتضررين؟ فجاءت تصريحاته مخيبة لآمال الإسرائيليين، ومساندة للموقف المصري، وداعمة لأهل فلسطين. والأمر نفسه تكرر مع زيارة رئيسي وزراء أسبانيا وبلجيكا لمعبر رفح، والإدلاء بتصريحات جريئة تصب في مصلحة أهل غزة، مما أغضب إسرائيل، واضطرت إلى استدعاء سفيري البلدين، لإبداء اعتراض إسرائيل على تصريحات حكومة كلٍ منهما. لم يكن كل هذا يسير على نحو عشوائي أو صدفوي، وإنما يسير وفق خطة مصرية ممنهجة، تسعى إلى عدم الانقياد نحو خوض حرب يحاول الكثيرون جرنا إليها، دون أن يعني هذا عدم جاهزيتنا لخوض الحرب إذا فرضت علينا. فلو صارت الحرب واقعا فلا قلق خاصة مع حالة التأهب القصوى للجيش المصري على الحدود، الذي ينتظر أي إشارة لخوض الحرب. وضعت الدبلوماسية المصرية عدة أهداف، على رأسها وقف الحرب والدمار، وفتح المعبر أمام المساعدات الإنسانية والأطقم الطبية، وفضح إسرائيل أمام العالم، والكشف عن وجهها القبيح أمام العالم كله. وعلى غير العادة، كان الرئيس السيسي المقل في تصريحاته إلا في وقت الحاجة، نجده يستغل أي فرصة ليدلي بتصريحات، تحمل رسائل طمأنة للداخل، وفضح وكشف للمخطط الصهيوني أمام العالم كله. بدأت الانفراجة لحل الأزمة من مصر، بتحقيق كل ما سعت الدبلوماسية المصرية إلى تحقيقه، ليس لمصر فحسب بل لأهل فلسطين، ولكل العرب. غير أن المكسب الأكبر من هذه الأزمة، إلى جانب وقف أنهار الدم، يتمثل في الدور الكبير الذي لعبته الدبلوماسية المصرية، والتأكيد على حسن إجادتها لقراءة المشهد الراهن، وبعمق دورها، الذي يؤكد أهمية الحلول الجذرية للقضية الفلسطينية، وليست تلك المسكنات، التي سرعان ما يزول أثرها. لقد اكتسبت مصر رصيدا إضافيا يضاف إلى مكانتها التاريخية الكبيرة. واكتسب رئيسها ثقة شعبه من جديد، بعد أن التحم الرئيس مع الشعب في موقفهما الموحد تجاه قضية المصريين الأولى، وزادت شعبية الرئيس بعد أن وجده الشعب يشاركه في الموقف نفسه، ويسعى للبحث عن وسائل غير تقليدية لدعم القضية الفلسطينية، ودعم أبناء فلسطين في أكثر من مناسبة، وأكثر من حديث. ونكتشف ونحن نتابع هذه الأزمة أن الرياح قد أتت بما لا تشتهي سفن المتاجرين بهذه القضية. فمع بزوغ هذه القضية ظنوا أن الظروف الاقتصادية والسياسية الراهنة ستكون ورقة ضغط، ولكنهم فوجئوا أن المصريين تعاملوا مع هذه الظروف الصعبة على أنها هامش لا قيمة له، أمام الحدث الفلسطيني/ العربي الأول. واليوم ونحن نعود إلى الاهتمام بداخلنا المصري، نكتشف أن هذه الأحداث زادت من صلابة موقف قيادتنا السياسية، ومن تمسك معظم المصريين بها، بعد أن اكتشفوا قوتها وصلابة موقفها، وبأن مواقفها الوطنية والقومية دوما ما يجدها الشعب في الأوقات الصعبة.
تحية إلى أبناء فلسطين، وأهل غزة والمقاومة الفلسطينية، مع الانتباه إلى عدم اختزال القضية الفلسطينية في غزة، وألا يتم اختزال المقاومة في فصيل واحد دون غيره. فكل أبناء فلسطين هم وقود الدفاع عن بلدهم. وتحية للدبلوماسية المصرية التي أثبتت حكمة تعاملها مع الأزمة الأخيرة قوة مكانتها التاريخية. وبقدر قبح الواقع السياسي في منطقة الشرق الأوسط، فإنها أعطت أملا في أنه لا يزال للسياسة الشريفة- التي تنتهجها مصر- مكان في هذا العالم.