القرن الأفريقي قنبلة موقوتة ينتظر العالم انفجارها دون الاستعداد لهذا الانفجار، الشيء الوحيد الذي يعرفه الجميع أن الذي يدفع ثمن تلك الأوضاع الملتهبة، وسيستمر في دفع الثمن هي شعوب تلك الدول من إثيوبيا وأريتريا والصومال وجيبوتي، وفي إثيوبيا رغم محاولات رئيس وزرائها بفرض هيمنة بلاده على الإقليم، إلا أن الشعب الإثيوبي يعيش فوق صفيح ساخن من الحرب العرقية التي من الممكن أن تشتعل في أية لحظة خصوصا في منطقة تيجراي؛ نظرا لتأخر العدالة الانتقالية، من ناحية ومن ناحية أخرى التهاب ملف السياسة الخارجية مع دول الجوار إريتريا وجيبوتي والصومال بسبب أطماع أبي أحمد، ثم الصومال التي أنهكتها حروب حركة الشباب المجاهدين فلا استقرار ولا تنمية على أي مستوى من المستويات، بل المزيد من الحروب مع الحركة التي تقوى وتحاول التمدد، في ظل قصور دولي، كل هذه المشكلات وغيرها يمهد الطريق لدور مصري قوي.
محللون يرجحون دخول المنطقة دوامة من الصراعات الإقليمية.. وأديس أبابا تنظر لشرق أفريقيا باعتباره ساحة نفوذ إقليمي
في تقريرها النهائي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل انتهاء ولايتها في 4 أكتوبر ٢٠٢٣، فصلت اللجنة الدولية لخبراء حقوق الإنسان في إثيوبيا (ICHREE)، التي أنشئت في عام ٢٠٢١ للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة خلال حرب تيجراي، المشهد المقلق لحقوق الإنسان، الذي تميز بعمليات الإعدام والتعذيب والعنف الجنسي والهجمات على الأطفال، والتي استمرت وفقا للجنة على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار في العام الماضي.
وقال رئيس الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، محمد شاندي عثمان، في كلمته الافتتاحية: "وجدنا أدلة على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت على نطاق مذهل. في منطقة تيجراي، نعتقد أن من الضروري إجراء مزيد من التحقيقات لتحديد حدوث الإبادة الجماعية ضد الناس في تيجراي بشكل قاطع".
ويبدو أن القوى الغربية، بما فيها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، التي كانت تدفع الى المساءلة من خلال نتائج التحقيقات المستقلة التي أجرتها الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، منذ بداية الحرب في نوفمبر ٢٠٢٠، قد تراجعت عن التزاماتها وتدعم الآن بنشاط برنامج العدالة الانتقالية بعد اتفاق بريتوريا.
ومع ذلك، يعرب الخبراء والمدافعون عن حقوق الإنسان عن قلقهم إزاء فعالية برنامج العدالة الانتقالية الذي بدأ في مارس٢٠٢٣ من خلال إجراء مشاورات عامة للنظر في خيارات سياسة العدالة الانتقالية المختلفة. اختتمت هذه المشاورات في سبتمبر ٢٠٢٢، وأعلنت وزارة العدل أن مسودة السياسة الناتجة سيتم الإعلان عنها هذا الشهر.
ولخصت خبيرة الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان راديكا كوماراسوامي هذا الوضع بصراحة في ملاحظاتها، قائلة إن "الآمال في المساءلة المحلية بعيدة للغاية".
وفي معرض إشارته إلى أن جهود المصالحة الوطنية تتعثر وسط استمرار انعدام الثقة بين الأطراف، شدد رئيس الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان عثمان على أن المشاركة الخارجية الثابتة تظل ضرورية حتى يتم تحقيق العدالة الكاملة للضحايا.
وهناك احتمالات كبيرة بإمكان تفجير الأوضاع مرة أخرى نظرا لعدم تحقيق العدالة ومحاسبة المسئولين عن الانتهاكات حتى الآن.
على صعيد آخر؛ يرجح بعض المحللين دخول منطقة القرن الإفريقي دوامة من الصراعات الاقليمية ربما يؤدي تطورها إلى أن تصبح صراعات مسلحة نتيجة أطماع رئيس الوزراء الأثيوبي أبي أحمد خصوصا بعد تصريحاته يوم الثلاثاء ١٤ نوفمبر أمام برلمان بلاده أن سعي أديس أبابا لامتلاك منفذ بحري، لا يهدد دول الجوار، في إشارة إلى الغضب الكبير الذي كان واضحا من ردود الأفعال في إريتريا والصومال وجيبوتي، بشأن تصريحات سابقة لآبي أحمد في هذا الشأن.
وقال آبي أحمد، خلال رده على نواب البرلمان الإثيوبي، في الجلسة العادية الثالثة والرابعة، يوم الثلاثاء ١٤ نوفمبر ٢٠٢٣، إنه على الرغم من المحادثات والتحليلات والمؤامرات والتوقعات واسعة النطاق، سعي إثيوبيا إلى منفذ بحري وإلى إن امتلاك ميناء خاص بها ليس أجندة جديدة، ولا يهدف إلى تهديد سيادة الدول المجاورة في القرن الأفريقي.
وتنظر إثيوبيا إلى منطقة شرق أفريقيا بما في ذلك القرن الأفريقي وحوض النيل والبحيرات العظمى باعتبارها منطقة نفوذ إقليمي تسعى لإبراز هيمنتها هناك رغبة في توسيع نفوذها على الصعيد القاري لتصبح أحد أقطاب القارة الأفريقية، وذلك بالرغم من عدم امتلاكها لمقومات القوة الإقليمية في المنطقة وهو أمر كان مثار جدل واسع بين العديد من الباحثين الأفارقة والغربيين.
إلا أن هناك عدة عوامل أخرى لعبت دورًا في تموضع إثيوبيا كقوة إقليمية بارزة في الإقليم، على رأسها الدعم الأمريكي والغربي للدور الإثيوبي في المنطقة على مدار العقدين الماضيين، وتراجع بعض دول المنطقة مثل كينيا وأوغندا ورواندا في مراحل معينة عن التنافس مع إثيوبيا خوفًا من الصدام المحتمل وأسباب أخرى تتعلق بالأوضاع الداخلية في هذه البلدان، إضافة إلى تدهور أوضاع بعض الدول الأخرى على مدار السنوات السابقة مثل الصومال والسودان.
ولا شك أن المزاعم التي يرددها آبي أحمد حول امتلاك بلاده لميناءين قبل ثلاثة عقود غير دقيقة، إذ إن بلاده احتلت إريتريا من عام ١٩٦٢ وحتى ١٩٩١ بشكل ينافي مبادئ القانون الدولي، وبإرادة أحادية من قبل الإمبراطور هيلي سلاسي، وقد انتهى هذا الاحتلال بتمكن الثوار الإريتريين من تحرير بلادهم، ثم عبر استفتاء شعبي رعته الأمم المتحدة.
ووفقًا لذلك تعد إريتريا دولة مستقلة ذات سيادة، وعضوًا في الأمم المتحدة وفق خريطتها التاريخية برًا وبحرًا، والاعتقاد أن إثيوبيا كانت تمتلك موانئ سيعيد المنطقة ككل إلى مربع الصراعات، وهو بمثابة إعلان حرب على دولة ذات سيادة، بخاصة أن ذلك يتنافى حتى مع ميثاق الاتحاد الأفريقي، الذي يعتمد على معايير الحدود الموروثة من الاستعمار، وإجراء أي تغيير في تلك الحدود، أو التفكير في إعادة رسمها يمثل اعتداءً على مبدأ أساس للميثاق الأفريقي.
وأن تصريحات أبي أحمد تنتهك سيادة الدول المطلة على البحر الأحمر، وأن وجود القواعد العسكرية للدول الكبرى في جيبوتي لا يعطي أديس أبابا أية حقوق لإعادة رسم الحدود أو امتلاك ميناء تحت مبررات الاضطرابات المحتملة، فحتى في حال حدوثها، فإن التأثير لا يقتصر على إثيوبيا وحدها، بل على جميع دول الجوار، وأن اقتصاد دولة جيبوتي يعتمد كليًا على تأجير موانئ للدول الكبرى، وتقديم خدمات الترانزيت للصادرات والواردات، ولم يطرأ أي جديد في هذا الأمر منذ عقود.
الصومال والغرق فى مستنقع الإرهاب
مد وجزر جعلا الحكومة الصومالية تتراجع عن قرارها بشأن قوات أتميس، لتطلب تأجيل انسحاب فرقة قوامها ٣٠٠٠ جندي أفريقي، متحدثة عن "انتكاسات عسكرية خطيرة".
وضمن المواجهات بين الجيش وحركة الشباب كانت هناك معركة تركت بصماتها بشكل خاص، ففي نهاية أغسطس الماضي، وعلى الرغم من تفوقهم العددي، مني الجنود الصوماليون بهزيمة في أوسوين وسط البلاد.
ويكافح الصومال، الذي يجري إعادة إعماره بعد حروب أهلية متكررة ولا يزال يخضع لحظر الأسلحة، من أجل هيكلة قواته المسلحة، بينما يتخوف مراقبون من تكرار سيناريو "على النمط الأفغاني"، بانهيار الدولة كليًا في حال رحيل أتميس.
ويقول عمر محمود، الباحث التابع لمجموعة الأزمات الدولية: "من الواضح أن هذا الأمر يدور في أذهان الجميع، وهذا أحد الأسباب التي تجعل رحيل أتميس لا يعني بالضرورة أنه لن يكون هناك وجود دولي في الصومال، مهما كان شكله".
ويضيف "محمود"، في حديث لصحيفة "لوموند" الفرنسية، أن "المناقشات جارية بهذا الشأن، خاصة في الأمم المتحدة، لتصور المستقبل".
وفي تصريحات سابقة، أعرب قائد أتميس، الفريق سام أوكيدينج، عن قلقه "إزاء نقص التجنيد والقدرات اللوجستية" لدى الصوماليين.
وفي الوقت الراهن، تدعم قوة الاتحاد الأفريقي الحملة الصومالية ضد الشباب من خلال توفير الدعم اللوجستي والمدفعية والرعاية الطبية للجرحى، كما أنها تضمن أمن البنى التحتية والمطارات والإدارات.
من جانبها؛ عبرت ميريسا ديسو، المحللة في معهد الدراسات الأمنية بالعاصمة الفرنسية باريس، عن مخاوفها من أن يشكل انسحاب أتميس نكسة كبيرة للصومال من شأنها أن تلغي “النجاحات القليلة” التي سجلتها السلطات.
وتقول ديسو للصحيفة نفسها إن "تقلب الوضع العسكري يجعل رحيل القوات الأفريقية في عام ٢٠٢٤ سابق لأوانه". وأضافت أنه "من أجل ملء الفراغ الناجم عن انسحاب أتميس، يمكن للصومال أن يلجأ إلى شركائه للمساعدة في تمويل العمليات العسكرية".
وتوضح أنه «يمكن لمقديشو أيضًا الاعتماد على تدريب القوات الخاصة من قبل الولايات المتحدة فضلًا عن نشر طائرات أمريكية بدون طيار في ساحة المعركة»؛ مشيرة إلى أنه «من شأن رفع حظر الأسلحة أن يسمح لمقديشو بتحديث قواتها المسلحة».
وفرض مجلس الأمن الدولي حظرا على الأسلحة في الصومال منذ عام ١٩٩٢ بسبب انهيار الحكومة المركزية آنذاك ودخول البلاد في حرب أهلية.
ومدد مجلس الأمن حظر استيراد السلاح للصومال في نوفمبر ٢٠٢٢، حتى الشهر نفسه من ٢٠٢٣، بدعوى استمرار تشكيل حركة الشباب تهديدا كبيرا للسلام والاستقرار في المنطقة.
من جهته، اعتبر الملازم الصومالي نور الدين علي من مركز شرطة واداجير في وسط مقديشو، أنه “من المبكر جدًا المغادرة، فلا يزال هناك الكثير من الهجمات، ولسنا مستعدين لمواجهتها بمفردنا".
الدور المصري
لا شك أن أهمية كل من الصومال وجيبوتي كإحدى الدول الحيوية داخل القرن الأفريقي من الموقع الاستراتيجي لتلك الدول وخاصة كونها تطل على أهم الممرات الملاحية وما يتطلبه ذلك من حتمية تنسيق مشترك؛ إذ إن المتأمل للأهمية الاستراتيجية لإقليم شرق أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي في العمق منه.
وما تبعه من تسارع إقليمي ودولي لخلق موطئ قدم بدول تلك المنطقة، يجد أنه يستمد حيوته من كونه على أهم ممرين ملاحيين يربطان دول شرق آسيا ودول غرب أوروبا وهما قناة السويس في شمال البحر الأحمر ومضيق باب المندب في أقصى جنوب البحر الأحمر والذي تطل عليه كل من جيبوتي وإريتريا والصومال واليمن، وبالتالي فإن أجندة الدول الإقليمية والدولية تتضمن وجود أسواق حيوية لها.
والموقع الجغرافي والخصوصية الثقافية لدول تلك المنطقة يجعلها إحدى دوائر الاهتمام لدى السياسة الخارجية لمصر، وذلك لكونها تحمل جانبين؛ الأول أفريقي والثاني عربي، وما يربط الموقع الجغرافي المُطل على باب المندب واتصاله المباشر بحركة السفن المؤدية لقناة السويس، يدفع القاهرة للتحرك بخطوات ثابتة نحو تعزيز التعاون مع دول المنطقة.
إضافة إلى ذلك يُشكل غاز القرن الأفريقي أهمية استراتيجية لدول القرن الأفريقي وبصورة خاصة الصومال وجيبوتي، وتُمثل الخطط المختلفة المستهدفة من جانب دول القرن الإفريقي لاكتشاف وإنتاج الغاز الطبيعي وما يتصل بها من مساعي لتحقيق التكامل في مجال الطاقة بين دول تلك المنطقة، خاصة في ظل توجه بعض دول المنطقة لإصدار قوانين جديدة للاستثمار في مجال البترول والغاز على غرار الصومال التي أصدرت قانونًا جديدًا في شهر فبراير من العام الماضي، الأمر الذي يُعطي ميزة تفضيلية بها، ويجعلها نطاقًا جغرافيًا حيويًا للتكالب الإقليمي والدولي.
ويمكن القول إن الأهداف الكامنة وراء الزيارات المتلاحقة بين المسئولين لدى القاهرة وكلٍ من جيبوتي والصومال بصورة خاصة تتلخص في عدة نقاط أهمها: تحقيق توازن في ضوء معادلة البحر الأحمر: وبالأخص في ظل التزاحم الخليجي وكذلك تركيا إلى جانب تشابك إسرائيل بمصالحها العسكرية والأمنية في البحر الأحمر ومنطقة القرن الأفريقي والذي يتطلب تنسيقًا مشتركًا بين القاهرة ودول القرن المطلة على البحر الأحمر.
ثانيا: موازنة وجود القوى الإقليمية، ذات الطبيعة التنافسية مع القاهرة وعلى رأسها تركيا خاصة في ظل مساعيها لتحقيق مبارزة استراتيجية تستهدف من خلالها كسب نفوذ أوسع في الشرق الأوسط والبحر الأحمر.
ثالثا: تستهدف القاهرة كسر حالة السيطرة التي تمارسها إثيوبيا على دول القرن الإفريقي في مجال الطاقة وبصورة خاصة مع كل من جيبوتي والصومال، في ظل إقحام "أديس أبابا" ملف "أرض الصومال" والتعاون الإيجابي بين القاهرة والصومال في المجالات المختلفة وفي ملف سد النهضة.
علاوة على انتهاجها سياسة خلط الأوراق، علاوة على المساعي التركية لاختراق المجال الحيوي لمنطقة القرن الإفريقي وبصورة خاصة الصومال التي تستهدف أنقرة فرض سيطرتها على مصادر الطاقة في المياه الإقليمية الصومالية المطلة على البحر الأحمر وذلك في ضوء الاتفاقية الموقعة بين تركيا والصومال مطلع يناير عام ٢٠٢٠، وكذلك مع الجانب الإثيوبي الذي وقع مع أنقرة في فبراير ٢٠٢٠ اتفاقًا للتعاون في قطاع البترول وتعزيز الاكتشافات المختلفة للغاز والنفط.
وهناك مجالات متعددة للتعاون بين القاهرة ومنطقة القرن الأفريقي وتتمثل تلك المجالات في:
التنسيق في مجال الاكتشافات النفطية والغازية، التعاون في المجال الأمني: وتحقيق قدر من التفاهمات المشتركة حول مستقبل الوضع الأمني في المنطقة وخاصة الصومال، في ظل تردي الأوضاع الأمنية ورغبة الدولة في تقويض الجماعات المسلحة هناك، ولعل ذلك يتطلب الكثير من التنسيق حول تعزيز قدرات المؤسسة العسكرية الصومالية.
إضافة لذلك فإن ثٌم هناك توترات بين الحكومة المركزية وبين الحكومات الأقاليم المختلفة وبصورة خاصة إقليم "جوبالاند"، ولعل هناك تخوفًا من تكرار السيناريو الإثيوبي – إقليم تيجراي- داخل الصومال والانزلاق في حالة فراغ سياسي، وانشغال أديس أبابا بالتحديات الداخلية، الأمر الذي يتطلب معه تنوع الشركاء الإقليميين وعلى رأسهم مصر.
التعاون في المجال الأمن المائي: والعمل على تحقيق المصالح المشتركة الأمنية والسياسية الناجمة عن تفاهمات تأسيس المجلس الجديد لدول البحر الأحمر، وكذلك التنسيق من أجل تأمين حركة الملاحة البحرية وبحث الفرص الاستكشافية لمصادر الطاقة المختلفة، وهو ما انعكس بصورة كبيرة في المباحثات المختلفة حول بحث سبل التعاون والاستفادة من الموانئ الجيبوتية والصومالية المختلفة.