نشأت رهبانية القديس شارل بورومي سنة 1652م في نانسى بفرنسا في وقت عصيب للغاية أثناء الحرب التي دامت ثلاثين عامًا من 1618- 1648م.
وقد بدأت بوادر هذه الرهبنة على يدي شاب يُدعى جوزيف شفونيل ابن الفارس عمانوئيل شفونيل بدافع المحبة العطاءة التى تجسدت فى شخصه. ولقد وُلد فى تلك المدينة عام 1620م واقتدى بالمسيح فصار مسيحًا آخرَ.
ولم يهتم جوزيف بمركزه ولا بالشهادات الدراسية التي حصل عليها (إذ كان طبيبًا ومحاميًا)، بل كرّس حياته كلها في خدمة الفقراء، والمرضى والمُهملين، وكان يهتم بعلاجهم بنفسه خاصة المصابين بمرض الطاعون الذى كان مُنتشرًا فى مدينة تول (Toul) فى تلك الآونة أي عام 1651م. وكان فى بيته صيدلية صغيرة، فكان يأتى بالمرضى إلى منزله ويطببهم بنفسه.
إلا أنه قد أُصيب بالمرض اللعين نفسه وانتقل إلى الأمجاد السماوية فى ذلك العام 1651 وهو في ريعان شبابه، إذ كان في الحادية والثلاثين من عمره.
وكان جوزيف قد أوصى والده قبل رحيله أن يواصل ما بدأه من عملٍ. ولبّى الأب أمنية ابنه الأخيرة واضعًا كل ممتلكاته فى رعاية الفقراء وخدمتهم بل وأنشأ "دارًا للرحمة" (Charité).
ولقد تطوعت سيدات أرامل وفتيات كثيرات بتقديم الخدمة المجّانية لهؤلاء الفقراء والمرضى والمحتاجين وقد تفانين فى العمل وبذلن أنفسهن من أجل إسعادهم.
وضعت المؤسسة الجديدة نفسها تحت رعاية العائلة المقدسة (يسوع ومريم ويوسف) وأطلقت الراهبات الأوليات على أنفسهن اسم: راهبات "العائلة المقدسة". وبذلن قصارى جهدهن للحفاظ على روح العائلة المقدسة فى جماعتهن الرهبانية. وقد تم تأسيس هذه الرابطة فى 8 يونيو 1652م فى نانسي / فرنسا ثم اعْتُرِفَ بها قانونيًا في العام ذاته بعد شهرين من التأسيس كرهبنة مستقلة. وجماعتنا الرهبانية هذه تابعة للكرسى الرسولى البابوى فى روما.
عاشت رهبانية القديس شارل بورمي في البداية حسب قانون القديس فرنسيس الساليزي الذى يرجع أصله إلى القديس أغسطينوس. وفي عام 1678م تعاونت الراهبات الأوليات مع أحد المطارنة على وضع قانونٍ خاصٍ بهن (روحانية الرهبنة) ينص على: ربط الحياة التعبدية (الصلاة) بحياة المحبة الخادمة. وتماشيًا مع احتياجات العصر أخذت الراهبات على عاتقهن سنة 1702م بجانب الاهتمام بالمرضى فى المستوصفات والمستشفيات أيضًا التدريس فى المدارس وتربية النشء الصاعد. كل هذا كان بحاجة إلى سَن قانونٍ جديدٍ يتناسب مع تلك المتطلبات. إذ قد نصَّ عقد التأسيس في عام 1662م على أن تظل المؤسسة مؤسسة علمانية أى أنَّ هدفها الخدمة فقط.
وفي ذلك الوقت كانت الأخوات يعشن سويًا ولكن بدون إبراز أي نذور رهبانية. ومن هذا المنطلق كنَّ يشعرن بأنه ليس هناك شيءٌ يربطهن بعضهن ببعضٍ سوى الخدمة. لذلك قررن إبراز نذري الرحمة والثبات لكي تكون تقدمتهن ذات هدف ومعني. في 22 من يوليو سنة 1679م وهو عيد القديسة مريم المجدلية التى نحتفل بعيدها كل عام تذكرًا لهذه المناسبة. هذان النذران يُعدان أولى النذور. ثم بعد ذلك تلاهما فى عام 1704م نذر الطاعة، وفى عام 1708م نذر الفقر الاختياري ثم في النهاية أبرزن نذر العفة سنة 1711م.
ومن واجبات الراهبات:
1. مد يد العون لكل من الفقراء، المرضى، المتروكين بكل ما يحتاجونه من تعزية ومساندة، والحرص على أن يحصل هؤلاء على أسرار الكنيسة: التناول، وسر المصالحة ومسحة المرضى. إلخ.
2. تقديم المساعدة المالية والمعنوية بقدر الإمكان لكل محتاج.
3. وقد استمرت الخدمة فى الرهبنة حتى يومنا هذا، وهي منتشرة فى كل أنحاء العالم.
لماذا نُدعى براهبات القديس شارل بورومي؟
يرجع السبب فى ذلك إلى أن عمانوئيل شفونيل والد جوزيف قد أهدى سنة 1652م للراهبات بيته الأكبر"سان شارل" الذى كان على واجهته تمثالًا للقديس شارل بورومى. فاعتاد عامة الشعب أن يطلقوا على الراهبات "بنات الرحمة للقديس شارل بورومي" ولذلك احتفظت الرهبانية الناشئة بهذا الاسم. ومع ذلك أكدت الراهبات ارتباطهن بالعائلة المقدسة من خلال الميدالية التى يحملنها إذ طُبِعَ على إحدى وجهيها صورة العائلة المقدسة وعلى الوجه الآخر صورة القديس شارل بورومي.
القديس شارل بورمي شفيع الرهبانية
إن هدف جوزيف شوفينيل، الذى يُعتبر المؤسس الحقيقي لرهبانيتنا، كان نفس هدف شارل بورومي وهو خدمة الفقراء، والمرضى وخاصةً المُصابين بمرض الطاعون في ذلك الوقت، والمتروكين وكل المحتاجين. على الرغم من أنه قد وُلِدَ بعد مولد شارل بورومي بحوالي اثنين وثمانين عامًا فهو إذًا لم يعرفه أو يعاصره، نظرًا لوفاة شارل بورومي في سنٍّ مبكرةٍ.
ولد كارل بورمي فى 2 أكتوبر1538م في إحدى مدن إيطاليا. ولقد ضحي هو أيضًا بحياته كلها فى خدمة المرضى المصابين بمرض الطاعون الذي كان مُنتشرًا فى تلك الفترة في مدينة ميلانو، كما ضحي أيضًا بممتلكاته ومنصبه، باعتباره محاميًا مرموقا، فى سبيل أحبائه الفقراء والمحتاجين والمرضى وانتقل إلى الأمجاد السماوية في3 نوفمبر1584م، في ربيع شبابه مثل جوزيف شوفينيل على إثر إصابته هو الآخر بمرض الطاعون في أثناء علالجه المُصابين به وكان عمره 46 سنة. وتضم مدينة ميلانو بإيطاليا رفاته. وله أعمال أخرى كثيرة وخالدة نذكر بعضًا منها:
1. هو المدافع الغيور عن حقوق الكنيسة؛ فلقد جدد بعض القوانين فيها.
2. شيد كثيرا من المعاهد الاكليريكية.
3. اهتم بتعليم الإكليريكيين بعد أن عينه خاله البابا بيوس الرابع كردينالًا على ميلانو 1652م.
4. المحارب المقدام من أجل طهارة العادات.
5. هدفه الواحد: إما الانتصار أو الهزيمة في خدمة المسيح.
6. أبو الغلابة، المتروكين والمرضى.
7. الناسك المتواضع، كان مثالًا حيا للاقتداء به واتخذته الرهبانية شفيعًا لها. ولقد رأت فيه القدوة الحسنة.
وأخيرًا لماذا نُدعى بالراهبات الألمانيات،
وكيف وصلت الراهبات الألمانيات إلى الإسكندرية والقاهرة؟
وكما قلنا سابقًا إن البداية والأساس كانا في نانسى بفرنسا، إلا أنها انتشرت فيما بعد ومع مرور الوقت في العالم أجمع حتي وصلت إلى الشرق الأوسط ومصر. ومقر بيتنا الرئيس (بيت الأم) التابعين له في ألمانيا، جرافشافت. ولهذا نُدعى بالراهبات الألمانيات لأنهن أسسن فى الشرق الأوسط بيوتًا كثيرة. نكتفى بالحديث فقط عن الأديرة الأربعة فى مصر فى القاهرة والإسكندرية.
كان راعي الجالية الكاثوليكية الألمانية في القرن التاسع عشر راهبًا فرنسيسكانيًّا يُدعى الأب لاديسلاوس شنايدر. (Ladislaus Schneider) وكان قد أسس مدرسةً لأولاد رعيته بالإسكندرية في عام 1883م. وكان لهذا الراهب شقيقة راهبة من راهبات القديس شارل بورومى بألمانيا اسمها الأخت كاترينا شنايدر.
طلب الأب لاديسلاوس من الرئيسة العامة الأم هيلانة (Mutter Helena) في ذلك الوقت أن تُرسل له راهبات لمساعدته في إدارة المدرسة ورعاية المرضى. لبّت الرئيسة طلب هذا الكاهن، وأرسلت ثلاث راهبات إلى الإسكندرية، وكانت شقيقته واحدة منهن. أقامت الراهبات الثلاثة فى فندق الأسدين الذي كان ذا سمعةٍ سيئةٍ، إلا أن الراهبات حولنه إلى ديرٍ لسكنى الراهبات ومدرسةٍ عريقةٍ تبدأ بالحضانة وتمتد إلى المرحلة الثانوية، تُخرج الأجيال والأجيال. ما زال الأسدان موجودين في فناء المدرسة حتي يومنا هذا. ثم تلى إنشاء المدرسة الألمانية لراهبات سان شارل بورومي بشارع صلاح الدين - بالعطارين تأسيس دير ودار للُمسنين بالإسكندرية أيضًا بشارع السلطان حسين - بمحطة الرمل سنة 1891م ورسالة الراهبات اللاتي يعملن به: خدمة العجزة والمرضى والمتروكين إلخ.
كذلك تأسس دير ومدرسة ثانية لراهبات سان شارل بورومي بوسط مدينة القاهرة بشارع محمد محمود بباب اللوق سنة 1904م. هذه المدرسة على نفس مستوي مدرسة الإسكندرية وعريقة أيضًا. المدرستان هما مدرستان ألمانيتان معتمدتان خارج حدود ألمانيا.