إن السياسة المصرية سياسة شريفة طوال تاريخها، لم تعرف الغدر أو الخيانة. هذه الجملة وردت على لسان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أحد تصريحاته الأخيرة، تعقيبا على ما يحدث في فلسطين. ربما تكون هذه الجملة مرت مرور الكرام على مسامع البعض، ولكنها استوقفتني كثيرا، ظنًا مني أن المقصود من قولها إرسال رسائل عدة إلى الخارج، خاصة إلى تلك الدول التي حاولت أن تستغل أحداث فلسطين للضغط على مصر، مستغلين الظروف الاقتصادية الصعبة من ناحية، إلى جانب محاولة استغلال الظرف السياسي الراهن المتمثل في قرب موعد الانتخابات الرئاسية من ناحية ثانية، وكذلك محاولة استغلال الحدود المصرية الملتهبة، شرقا وغربا وجنوبا.
لقد حاولت بعض الحكومات استغلال كل هذه الأحداث لإحداث حالة من الفوضى في الشارع المصري، ومن ثم تتوفر التربة الخصبة لزعزعة حالة الاستقرار في المجتمع المصري، فيتم الضغط على القيادة المصرية، لتحقيق مآرب لهذه الحكومات. غير أن التعامل المصري، سواء على مستوى القيادة السياسية وكافة الأجهزة، أو على المستوى الشعبي، اتسم بالحكمة والهدوء والفطنة. حاولت إسرائيل الضغط إنسانيا على مصر، من خلال إلهاب غزة، وتحويلها إلى جحيم لأهلها، فيلجأ أبناؤها إلى هجرتها والانتقال إلى أقرب مكان آمن، المتمثل في سيناء، ظنا منهم أن مصر أمام الضغط الإنساني والعالمي ستضطر إلى الرضوخ باستقبال أشقائنا من الفلسطينيين، لأن مصر ستكون بين أمرين: إما أن تغلق المعبر أمام المهجرين، وعندئذ ستلقى رد فعل شعبي داخلي، وعربي وعالمي عنيف، إذ سينسى من تسبب في التهجير، أعني إسرائيل، وسيتم التركيز على من حمى حدوده، محاولة للحفاظ على القضية في قلوب أهلها، أعني مصر. وبالطبع سيتم استغلال الآلة الإعلامية لتشويه صورة مصر داخليا وخارجيا. وإما إن ترضخ مصر للضغوط الإنسانية والعالمية، فتفتح المعبر، الذي سيكون بمثابة القضاء التام على القضية الفلسطينية، وتفريغ فلسطين من أهلها، وهو ما سيكون بمثابة خطوة مهمة في تحقيق مخطط إسرائيل الكبرى، على غرار ما حدث- بشكل أو بآخر- في نكبة ١٩٤٨. ومعلوم للجميع أن مصر دوما تفتح أبوابها أمام الأشقاء، خاصة في أوقات المحن، على غرار ما حدث لأشقائنا من العراق وسوريا واليمن وليبيا والكويت والسودان وأهل فلسطين أنفسهم، ولكن غلق المعبر أمام عملية التهجير بمثابة واجب وطني. وأمن قومي عربي.
فطنت القيادة السياسية والأجهزة المصرية إلى هذا المخطط، تماما على نحو ما فطنت الدبلوماسية له، فأعدت خطة المواجهة. وتنبغى الإشارة إلى أن هذا المخطط ليس وليد هذه اللحظة، بل هو قديم، ووعي الأجهزة المصرية له وبه قديم. غير أن الجديد هذه المرة هو ما انتهجته الدبلوماسية المصرية، حيث اتبعت مبدأ المصارحة والمكاشفة، بمصارحة الشعب المصري والشعوب العربية بحقيقة مخطط القضاء على القضية الفلسطينية، ومخاطر فتح معبر رفح أمام المتضررين من الهجوم الإسرائيلي. ففيما مضى كانت مصر تحتفظ بهذه الحقائق والمخاوف والمخاطر لنفسها، دون الإفصاح عنها أمام الرأي العام المصري أو العربي، وهو ما كان يمثل تربة خصبة من قبل بعض الدول للمتاجرة بالقضية الفلسطينية، من خلال لجوء بعض المتاجرين بالقضية الفلسطينية، داخليا وخارجيا، إلى إلهاب مشاعر الشعوب العربية باستخدام بعض الشعارات البراقة، والجمل الملهبة لحماس الشعوب العربية، التي كانت تنخدع بمثل هذه العبارات، من قبيل: "خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمد سوف يعود"، و"ع القدس رايحين.. شهداء بالملايين"، أو أن نجد أحد الرؤساء يخطب في شعبه خطابات تحمل انتقاصا من دور مصر، وتعلن شكليا رفضه، أو أنه سوف ينزل الويل بإسرائيل. هذا ما يعلنه، ولكن ما يفعله سرا مناقض لما أعلنه كلاما. وللحديث بقية؛ نظرا إلى أهميته.
* أستاذ الأدب الشعبي بكلية الآداب، جامعة القاهرة