الصوم نوره مشرق دائم.. والملائكة تفرح بالصائم
قم استيقظ يا نائم.. وأبدأ من أول خين أفران
صوموا الصوم الروحاني.. كقول داود الطوباني
هذه بعض أبيات مديح الصوم نوره مشرق دائم، حيث تعبر تلك الأبيات عن قيمة ومكانة الصوم في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، حيث يبدأ الأقباط الأرثوذكس اليوم الأحد الموافق 26 نوفمبر صوم الميلاد المجيد، الذي يستمر لمدة 43 يوما ينتهي بصلوات ليلة العيد الموافق 7 يناير، ويشتهر هذا الصوم بتسبحة شهر "كيهك" حيث يعلو صوت الألحان الكيهكية ذات الإيقاع "الفرايحي" في كافة الكنائس القبطية، متهللين لاستقبال المسيح طفل المذود كما استقبل موسى الشريعة قديماً على جبل الطور بسيناء.
ويمتنع الأقباط خلال هذا الصوم عن أكل اللحوم والألبان وكافة المشتقات الحيوانية ويسمح في هذا الصوم بأكل الأسماك كونها من أصوام الدرجة الثانية من أصوام الكنيسة؛ وهناك البعض يأخذون شوطاً أكبر حيث بجانب هذا النظام الغذائي يصومون انقطاعياً بدءا من شروق الشمس إلى وقت غيابها، ويكثر اتخاذ هذا المسلك بين الآباء "الإكليروس" والرهبان المتنسكين في البراري.
ويقضي الأقباط غالبية أيامهم في صيام، حيث يتعدى عدد أيام الصوم على مدار العام أكثر من 200 يوم صوم.
تنقسم الأصوام في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من حيث درجة النسك إلى درجتين أصوام درجة الأولى وأصوام الدرجة الثانية:
الدرجة الأولى
- الصوم الكبير: وهو أقدس الأصوام من بين أصوام الكنيسة ومدته 55 يوما يحتوي على ثلاثة أصوام هي: (أسبوع الاستعداد، الأربعين يومًا المقدسة التي صامها المسيح صومًا انقطاعيًا، أسبوع الآلام).
- صوم الأربعاء والجمعة: مدته يومين أسبوعيًا على مدار العام باستثناء الخمسين المقدسة وعيدي الميلاد والغطاس.
- صوم نينوى: مدته ثلاثة أيام ويسبق الصوم الكبير بأسبوعين.
- برامون الميلاد الغطاس: مدته من يوم إلى ثلاثة أيام قبل عيد الميلاد مباشرة.
ووفقًا لطقس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فإن أصوام الدرجة الأولى هي التي لا يجوز فيها أكل السمك، فالصوم الكبير مدته 55 يوما موعده متغير حسب موعد عيد القيامة.
أصوام الدرجة الثانية
- صوم الرسل: هو صوم مدته متغيرة من اليوم التالي لعيد العنصرة حتى 5 أبيب بالتقويم القبطي.
- صوم العذراء: مدته 15 يوما من 1 - 16 مسرى.
- صوم الميلاد: وهو صاحب تقرير اليوم.
بينما تلك الأصوام هي التي يجوز فيها أكل السمك.
ويصوم الأقباط خلال صوم الميلاد 43 يوما متصدرين المشهد كأطول فترة صوم لعيد الميلاد من بين كنائس العالم، وتنقسم إلى 40 يوما تصومها الكنيسة لاستقبال ميلاد المسيح، كما صام موسى 40 يوما قبل أن يتسلم كلمة الله المكتوبة "الشريعة، مضافة لها 3 أيام تذكار معجزة نقل جبل المقطم بيد القديس سمعان الخراز في عهد البابا إبرام بن زرعة السرياني بطريرك الكنيسة رقم 62 وفق التقليد الكنسي.
وهذا ما أكده القس كيرلس كاهن كنيسة الشهيد مار جرجس القبطية الأرثوذكسية بخماروية في شبرا في كتابه: "أصوامنا بين الماضي والحاضر": إن صوم الميلاد بوضعه الحالي أدخله الأنبا خرستوذولـس البطريـرك الـ 66 في القرن الحادي عشر عن الغرب حتى يتشابه في عدد أيامه مع الصوم الكبير، وأضيف إليه ثلاثة أيام الصوم لنقل جبل المقطم وأصبح 43 يوما، ولكن خرستوذولس لم يذكرها في قوانينه، ولم يصم أهل الصعيد للميلاد إلا من أول كيهك (28 يوما)، وثبته البابا غبريال الثامن على هذا الوضع منذ أن عُرف هذا الصوم، واستقر الرأي على أن يكون عدد أيامه أربعين يوما حتى يماثل في عدده الأربعين المقدسة، أضافت إليها الكنيسة القبطية الثلاثة أيام التي صامها الأنبا ابرآم بن زرعه السرياني (975-978) – البطريرك “62” من بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – والشعب القبطي معه قبل معجزة نقل جبل المقطم، فصار صوم الميلاد في الكنيسة القبطية 43 يوما، عدله البابا غبريال الثامن كما رأينا وجعله 28 يوما فقط، إلا أن الكنيسة عادت بعد وفاته إلى المدة المحددة سابقا 43 يوما، بينما ظل في باقي الكنائس أربعين يوما فقط.
ويقول القس دوماديوس الراهب كاهن كنيسة السيدة العذراء بمدينة نصر القاهرة لـ "البوابة نيوز": “يُعد صوم الميلاد أحد الأصوام الهامة في كنيستنا القبطية، ويحمل معنى التجسد الإلهي واستقبال الله ظاهراً في الجسد، ونمتنع في هذا الصوم عن أكل اللحوم والمشتقات الحيوانية، ويسمح فقط لنا بأكل السمك كنوع من التخفيف لكثرة أيام الصيام، وأتى ذلك بعد القرن العاشر، وبشكل عام بدأ الصوم في الكنيسة القبطية في القرن الثالث الميلادي، وثبت في عهد البابا خرستوذولس بطريرك الكنيسة القبطية رقم 66، حيث قام بتحديد الأصوام وتحدث بشكل خاص عن عيد الميلاد حيث قال إنه يبدأ في عيد مارمينا في 15 هاتور إلى 29 كيهك، وكان قديماً يتم الاحتفال بعيد الميلاد والغطاس سوياً، ومدة صوم الميلاد لم تكن منضبطة، ولكنهم بشكل عام كانوا يصومون 40 يوماً مثلما صام موسى لكي يتسلم الشريعة، ومن ثم أضيفت ثلاثة أيام الخاصة بمعجزة نقل جبل المقطم”.
ويكمل: "حاول البابا غبريال الثامن البطريرك رقم 97 من بطاركة الكنيسة، أن يغير فترة الصوم إلى 28 يوما إلا أنه قد رجعت الكنيسة إلى المدة المحددة سابقاً، ولكن ظل بعض الكنائس كان المعتاد في الصعيد أنهم كانوا يصومون في بداية شهر كيهك، إلى أن قام البابا غبريال الثامن بتثبيت مدة الصوم وطبقت على الكنيسة، وأهم فترة في صوم الميلاد هو شهر كيهك ونحن نسميه الشهر "المريمي" وهي فترة مبهجة جداً حيث نستعد لاستقبال السيد المسيح، فتسهر الكنيسة في كل ليلة بالصلوات والتسابيح، وخلال كل يوم أحد نعيش حدثا مختلفا من بشارة ميلاد المسيح، الصوم في الكنيسة له كرامة وتهتم الكنيسة خلاله جداً بالتسبيح والتمجيد والسهر لمدح الله؛ فمثلاً نقول: "لو كنا فقراء المال اسمك فقط يكفينا، وصلاحك يغنينا"، فهذا الصوم عموماً هو بمثابة دعوة للمشاركة مع ميلاد المسيح الذي لم يوجد له موضع؛ لذلك هناك الكثير يحبون أن يخدم في تلك الفترة بزيارة المستشفيات ورعاية المشردين ومساعدة كل الناس الذين يعانون من ظروف خاصة.
ويختتم القس دوماديوس قائلاً: “ويمكننا أن نعطي روشتة روحية للإنسان القبطي يسير عليها خلال تلك الأيام، ونبدأ بأهم شيء مفيد في الصوم هو القدرة على الامتناع عن الشهوات، فمثلاً نمتنع عن تناول الطعام رغم أنه أمامنا ونفعل ذلك بضمير مستريح وهذا يأخذنا في رحلة في داخل أعماقنا، وذلك بمعونة الصلاة والتسابيح التي تقوي الإنسان”.
بينما يقول الأب متى المسكين متأملاً عن الصوم: إن الصوم هو محاولة الحياة بدون أكل وهذا يرمز للملكوت والحياة الأبدية؛ فالصوم يعنى استعلان جزئي بحسب الفكر، أما بحسب الحياة الروحية والخبرة فهو تجلي، فيه الإنسان كمخلوق يتجلى ويستطيع أن يحيا بدون طعام، وفى الحقيقة الصوم هو تعبير إلهي، لكنه يفسر بتعبيرات مادية ميتة ضعيفة لا تساوى قيمته للأسف؛ فعندما صام السيد المسيح 40 يوما بدون أكل أو شرب، أراد أن يُرينا صورة التجلي لصورة الجسد الذى يحيا للملكوت، وبالتالي الصوم هو إعداد أو نقلة لحياة أخرى أفضل وأعلى وهى الملكوت، فمن الممكن للإنسان أن يعيش لله بدون أكل ولو فترة، خلالها يستطيع أن يستجلى كيان الإنسان من الداخل، لأننا فعلًا مخلوقون لنحيا بدون طعام، فإحدى الصور المبدعة للصوم أنه تجربة كيانية داخلية فيها نتحسس داخلنا إمكانية قضاء الساعات الطويلة بدون طعام وإشغال الجسد بالطعام، لكى نرتفع كيانيًا بالعقل.
ويتابع، إن الصوم فى الكنيسة الأرثوذكسية محور كل عبادة فردية أو جماعية، أما بالنسبة للفرد فالآباء قالوا: «إذا أردت أن تنجح فى أى فضيلة روحانية فابدأ جهادك بالصوم»؛ لأن الصوم هو أول وأقوى عمل لتحويل الطاقة الجسدية إلى طاقة روحانية، لذلك أصبح الوسيلة الفعَّالة والناجعة لتزكية كل سيرة روحانية، فبقدر ما يعتاد الإنسان الصوم، بقدر ما تستقر نفسه فى علاقتها مع الله وتنكشف أمامه أسرار الحياة.
والكنيسة الأرثوذكسية فى تحديدها لمواسم الصوم ومدَّته اعتمدت على أمرين أساسيين:
الأول: المناسبة التي أوحت إليها الصوم فى حد ذاتها.
الثاني: حاجة الكنيسة دائمًا وباستمرار إلى الصوم فى حد ذاته.
وهذان الأمران هما فى حقيقتهما دافعان عظيمان ومهمان جدًّا للصوم يحويان جوهر العبادة كله، أما المناسبة التي أوحت بالصوم للكنيسة، فهي دائمًا نابعة من سر الخلاص الذي أكمله لنا المسيح، وهي إما ميلاده أو موته أو قيامته، أو حلول الروح القدس وبدء كرازة الرسل باسمه فى العالم كله، أو تقييم الدور الذي أكملته العذراء القديسة مريم فى قبولها سر الخلاص الإلهي الذي كان مخفيًا فيها والشهادة له حتى يوم الخمسين إلى أن حلّ الروح القدس واضطلع هو بالشهادة من بعدها إلى نهاية الزمن.
والعلاقة التي تربط كلا من هذه المناسبات بالصوم وتحتِّمه، هى علاقة روحية سرية غاية فى الأهمية، إذ يستحيل أن ندخل مثلًا فى سر الميلاد الذي هو استعلان الله فى الجسد الإنساني، إذا لم نسمو بأفكارنا وحواسنا الجسدية إلى مستوى إلهي. وقد قلنا سابقًا إن الصوم هو الوسيلة العُظمى لتحويل الطاقة الجسدية فكريًا وعاطفيًا إلى طاقة روحانية. إذن، فلا مناص من الصوم إن كنا نريد أن نستعلن روحيًا سر الخلاص القائم والمُعلَن فى ميلاد المسيح.