في الحكاية الشعبية المصرية "البغل دخل الإبريق"، التي عرضنا- باختصار- لها في مقالنا السابق، انتهينا فيه إلى تأكيد أهالي القرية إلى أن سبب الخلاف الذي حدث بين الزوج/ الفلاح وزوجته مرده إلى "ساعة الشيطان"، في حين قام الزوج بتبرئة الشيطان من هذه التهمة. وربما تكون هذه الحكاية من الحكايات القليلة، إن لم تكن النادرة، في ثقافتنا العربية التي تتعامل مع الشيطان بمثل هذه الصورة الإيجابية، فالصورة الذهنية للشيطان في معظم أعمالنا الأدبية، وفي مخيلاتنا الشعبية، تبرز صورة سلبية للشيطان تلتقي والصورة الدينية له. هذه الصورة النادرة في الحكاية دفعت الشيطان إلى الوقوف بجانب الزوج لاستعادة زوجته، التي خدعها العمدة؛ إذ لأول مرة يجد الشيطان من يدافع عنه، ويقول عنه كلمة طيبة. إن إرجاع أهالي القرية سبب الخلاف بين الزوجين إلى أنها "ساعة شيطان"، تلتقي والمبرر الاجتماعي الجاهز، الذي يرد كل مشاكلنا إلى ذلك الشيطان، فالخلاف بين الشقيقين بسبب الشيطان، وخلافات عائلتين مردها إلى الشيطان، والفتن الطائفية، وكل مشاكلنا الاجتماعية والدينية كذلك مردها للشيطان، وهكذا يتم الهروب من البحث عن الأسباب الجوهرية والجذرية وراء تفاقم مشاكلنا، ويتم إرجاعها على نحو آلي جاهز إلى الشيطان، وكأننا ندفن رؤوسنا في التراب. يترتب على ذلك أننا نقدم مسكنات لمشاكلنا الاجتماعية والدينية، ولا نقدم حلولا جذرية لها، الأمر الذي لا يتم فيه القضاء على مشاكلنا، وإنما تستمر في الظهور والاختفاء بين الحين والآخر. فعلى سبيل المثال إذا حدث خلاف بين عائلتين، وتم الشروع في الصلح بينهما، فلا يتم البحث عن أسباب الخلاف بين هاتين العائلتين، ولماذا تم وقوع شجار بينهما، وإنما يتم بدء جلسة الصلح بينهما بالتأكيد على أن ما حدث من شجار بين العائلتين مرده إلى ذلك المجهول، أعني الشيطان، الذي تمكن من الإيقاع بينهما، فتكون نتيجة هذه الجلسة صلح مؤقت هش، وكلما سنحت الظروف يطفو الخلاف والشجار مرة أخرى على السطح. في حين عندما تهتم الجلسة بالبحث عن أسباب الخلاف بين العائلتين، ولماذا تم الشجار بينهما، عندئذ يكون بالإمكان الوصول إلى صلح دائم، واستقرار للعلاقات الاجتماعية؛ ومن ثم استقرار للمجتمع. وللأسف كانت مثل هذه الحلول المؤقتة "المسكنات"، هي الطريقة التي كانت تتعامل بها الدولة المصرية في فترات سابقة مع مشاكلنا الجوهرية، مما كان يتعذر معها الوصول إلى حل جذري لمشاكلنا الاجتماعية والسياسية والدينية. وإن كنا نلاحظ- مؤخرا- ثمة تغييرا في معالجة بعض مشاكلنا العالقة، بعيدا عن المسكنات التي طالما أضرت بالمجتمع المصري، هذا على الصعيد الرسمي، ولكننا في حاجة ماسة إلى تغيير مثل هذه الثقافة التبريرية الجاهزة على الصعيد الاجتماعي والشعبي. فمثلا، عادة الثأر، تلك العادة الممتدة من العصر الجاهلي حتى وقتنا الراهن، يتم التعامل معها بالحلول المسكنات، وليس الحلول الجذرية؛ مما ساعد على استمراريتها والإبقاء عليها حتى الآن. والأمر نفسه مع قضايا "الفتن الطائفية"، التي نجدها تطل برأسها بين الحين والآخر؛ لأنه لم يتم التعامل معها على نحو جذري، وإنما تعاملنا معها على غرار فيلم "حسن ومرقص".
وليس الشيطان هو المبرر الاجتماعي الجاهز الوحيد، وإنما نجد "الحسد" مبررا ثانيا يحظى بأهمية كبرى في تبرير بعض المشاكل الاجتماعية في المجتمع المصري. فمثلا إذا حدث خلاف أسري، فبدلا من البحث عن الأسباب الجذرية للخلاف، كتقصير أحدهما تجاه الآخر، أو عدم التفاهم أو غيره من أسباب أخرى تهدد مستقبل حياتهما الزوجية، فإن البعض- محاولة للصلح بين الزوجين، وتقريب وجهات النظر بينهما- يقوم بإرجاع سبب الخلاف بينهما، لما طالهما من حسد المقربين، بقولهم: "انتو كنتم زي السمن على العسل.. انتو أكيد اتحسدتم. الناس مش سايباكم في حالكم". ومثل هذا الكلام يترك أثرا طيبا غالبا في التقريب بين الزوجين، ولكنه صلح وتقريب مؤقت بين الزوجين أيضا. ولا يتم اللجوء لمبرر الحسد في تبرير المشكلات الكبرى، بل قد يستخدم بوصفه مبررا نفسيا في أحيان أخرى. فمثلا لو كان هناك شخص يقود سيارة فارهة، وحدث أن وقعت سيارته في حادثة، فبدلا من البحث عن أسباب الحادث مثل السرعة المتهورة، أو غيرها، فإن البعض- محاولة منهم تخفيف وقع الحادثة على صاحب السيارة- يقوم باختزال أسباب الحادث إلى ما طال هذا الشخص من حسد البعض، وحقدهم عليه، بسبب شرائه تلك السيارة، طالبين منه أن يحمد الله لأن "العين" جاءت/ أصابت السيارة، ولم تصبه شخصيا. مثل هذا التبرير- بالرغم من صعوبة الأمر- يكون بمثابة مهدئ نفسي للشخص، الذي غالبا ما يستجيب ويهدأ نفسيا.
ما أريد أن أخلص إليه أن البعض أحيانا يتمسك بمثل هذين المبررين الاجتماعيين أو النفسيين (الشيطان والحسد) الجاهزين في حل مشكلاته الاجتماعية والنفسية. وفي الحقيقة هي ليست حلولا جذرية، بقدر ما تكون مسكنات لبعض المشكلات، مما يؤدي إلى تراكم مثل هذه المشكلات وتفاقمها مع مرور الوقت. هي حلول/ مبررات أصبحت مع الوقت بمثابة ثقافة نتناقلها بشكل لا شعوري، وهي بقدر ما تمنحنا هدوءا واستقرارا مؤقتا، فإنه الهدوء الذي يسبق عواصف تظهر بعد تفاقم مثل هذه المشكلات، وحينئذ لا يصلح معها المسكنات، أو مثل هذه التبريرات الاجتماعية الجاهزة. وهنا تأتي أهمية خبرة الفلاح الأمي في الحكاية الشعبية "البغل دخل الإبريق"؛ حيث هو من فطن إلى أهمية النظر إلى مشكلته مع زوجته بعمق، وعدم اختزالها أو نسبتها إلى الشيطان، فالمشكلة- في نظره- ليست في الشيطان، ذلك الكائن المجهول، الذي نلقي إليه بكل التهم والأسباب، وإنما أسباب المشكلة أعمق من ذلك التبرير الاجتماعي الجاهز، وهو ما اقتنع به الفلاح دونا عن غيره من أبناء قريته، الذين حاولوا مواساته. وانتهت قناعة الفلاح بالبحث عن الأسباب الحقيقية وراء مشكلته، وصوله في النهاية إلى حل جذري لمشكلته، بعودة زوجته إليه،بعد أن أدركت خطأها، فتابت وأنابت. وهو الأمر الذي انتهى بأن يعيشا حياة سعيدة دائمة ومستقرة. فكأنها دعوة من الفلاح الأمي إلى المجتمع المصري، بالبحث دوما عن جذور المشكلات ومواجهتها بقوة، وليست التبريرات الثقافية الجاهزة "المسكنات".