بعد أشهر من الخسائر الفادحة فى الهجوم ضد روسيا ظهرت التوترات بين أعضاء السلطة التنفيذية فى أوكرانيا إلى العلن لدرجة أنها دفعت الرئيس فولوديمير زيلينسكى إلى إعلان استقالته والدعوة إلى وقف الخلافات السياسية. هذا ما كشفته سيوبهان أوجرادى فى أعمدة صحيفة "واشنطن بوست" فى مقالها بعنوان: "الجمود يختبر زيلينسكى والجنرال زالوزني مع تصاعد إحباطات الحرب" والمنشور فى ٨ نوفمبر ٢٠٢٣.
وقد أعلن فولوديمير زيلينسكى فى ٦ نوفمبر ٢٠٢٣: "يجب على الجميع تركيز جهودهم على الدفاع عن البلاد". وأضاف أنه يجب علينا "أن نجمع أنفسنا معًا وألا نرتاح مع عدم الغرق فى الخلافات الداخلية، فقد يكون للانقسام عواقب وخيمة.. الوضع الآن هو نفسه كما كان من قبل، إذا لم يكن هناك نصر فلن يكون هناك بلد".
لا شك أن دعوة فولوديمير زيلينسكى تعكس إلى حد كبير الخلاف العام مع قائد القوات المسلحة الأوكرانية الجنرال فاليرى زالوزني، حول ما إذا كانت الحرب قد وصلت بالفعل إلى "نقطة ميتة" لأن "الحرب وصلت إلى طريق مسدود" مثلما صرح الجنرال الأوكراني، فى مقابلة حديثة مع مجلة الإيكونوميست بتاريخ ١ نوفمبر ٢٠٢٣ كما بادر الرئيس الأوكرانى إلى رفض هذه التصريحات خلال مؤتمر صحفى مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين.
وأمام ذلك، علق فولوديمير زيلينسكى على ملاحظة الجنرال زالوزنى بشأن "الموعد النهائي": "الجميع متعب والآراء مختلفة". وقال أيضًا لشبكة NBC News إنه لا يعتقد أن الأمر كان طريقًا مسدودًا؛ لكن أحد مستشارى الرئيس ذهب إلى حد القول على شاشة التلفزيون الأوكرانى أن تعليقًا مثل تعليق الجنرال زالوزنى "جعل مهمة روسيا أسهل"!.
ويتمتع الجنرال زالوزنى وهو ضابط محترف، بشعبية وطنية كبيرة ويُنظر إليه على أنه يمثل تهديدًا محتملًا للرئيس الأوكرانى إذا قرر دخول السياسة.. وحتى الآن لم يعط الجنرال زالوزنى أى إشارة إلى أنه يفكر فى مثل هذه الخطوة، لكن من الواضح أنه بعد ٢٠ شهرًا من الحرب الشاملة فقد بدأت الوحدة الوطنية فى الانهيار.
كما أن مسألة الطريق المسدود لها طبيعة خاصة حيث يخشى المسئولون الأوكرانيون من أن الوضع الحالى السلبى قد يدفعهم إلى المفاوضات مع روسيا الأمر الذى قد يجبرهم على التنازل عن الأراضي، ومع ذلك فإن غالبية الأوكرانيين يعارضون التنازلات الإقليمية على حد قول الصحفية فى صحيفة واشنطن بوست سيوبهان أوجرادي.
لقد أصبح الاحتكاك بين الزعيمين واضحًا فى حين تستعد أوكرانيا لشتاء قاس قادم مع غياب الأمل فى إحراز تقدم كبير على الجبهة الجنوبية. حتى الجنرال زالوزنى أصر على أنه "ربما لن يكون هناك اختراق ممتاز وعميق" وذكرت أليونا جتمانشوك مؤسسة ومديرة مركز أوروبا الجديدة وهو مركز أبحاث فى كييف إن مثل هذه الخلافات المفتوحة "تعمل بمثابة إلهاء عن كسب الحرب وتصب بالتأكيد فى مصلحة العدو" وأضافت أليونا جتمانشوك: "كل شيء يبدأ بالوحدة فى أوكرانيا".
وفى الحقيقة، المعنويات بين المدنيين منخفضة للغاية خاصة وسط مخاوف متزايدة من أن روسيا قد تجدد هجماتها على البنية التحتية للطاقة، الأمر الذى قد يجعل الحياة صعبة خلال الأشهر الأكثر برودة فى العام؛ لكن الضغط لا يأتى من ساحة المعركة فقط؛ لقد تحول الاهتمام الدولى إلى حد كبير نحو الحرب فى إسرائيل وغزة.
ففى واشنطن تتصاعد الخلافاتات بين المشرعين حول المساعدات العسكرية الإضافية لأوكرانيا وفى ٦ نوفمبر ٢٠٢٣ رفض الرئيس زيلينسكى علنًا إجراء انتخابات رئاسية فى ربيع عام ٢٠٢٤ كما ورد فى التقويم السياسى للبلاد.
وأعلن زيلينسكى إن المناقشات حول الانتخابات كانت "غير مسؤولة على الإطلاق" فى زمن الحرب كما ان البلاد تعانى من حصار يمنع إجراء الانتخابات. وشدد على أنه "بالإضافة إلى آلاف الجنود الذين يقاتلون على الجبهة فقد شردت الحرب ملايين الأوكرانيين مما يجعل من المستحيل إجراء انتخابات نزيهة".
لقد أظهرت أوكرانيا حتى الان على الأقل علنًا وحدة وطنية قوية مع تنحية المنافسات السياسية جانبًا فى حين كانت البلاد تقاتل ضد "العملية الخاصة" الروسية فى أوكرانيا.
ولتوضيح هذه التوترات الداخلية داخل السلطة التنفيذية الأوكرانية، نشير إلى أنه فى نوفمبر ٢٠٢٣ على سبيل المثال قام فولوديمير زيلينسكى بإقالة الجنرال فيكتور خورينكو الذى ترأس القوات الخاصة فى البلاد.
وقد أعلن فيكتور كورينكو الذى عمل تحت قيادة الجنرال زالوزنى فى ٦ نوفمبر ٢٠٢٣ إلى إحدى وسائل الإعلام الأوكرانية "أوكراينسكا برافدا" أنه لا يعرف سبب إقالته وأنه "علم بالأمر من وسائل الإعلام". كما أن الجنرال زالوزنى بدا متفاجئًا أيضًا من هذا الإعلان.
أما وزير الدفاع رستم عمروف الذى أقالت الرئاسة سلفه أوليكسى ريزنيكوف فى سبتمبر ٢٠٢٣ فى إطار عملية تحقيق فى الفساد، فقد صرح فى بيان نُشر على فيسبوك إنه لا يستطيع الكشف علنًا عن أسباب إقالة الجنرال خورينكو لأن مثل هذه التصريحات قد تصب فى صالح روسيا.
وفى أحد التعليقات على موقع فيسبوك والتى حظيت بإعجاب كبير، انتقد نائب رئيس الوزراء السابق بافلو روزينكو طريقة تعامل عمروف مع هذه القضية. وقال بايلو روزينكو: "لقد ارتكبت خطأً فادحًا بتقديم هذا الطلب دون علم الجنرال زالوزني". "ومثل هذه الأخطاء بالتحديد هى التى تضعف أوكرانيا فى هذه الحرب!... ومن المؤسف للغاية أن تسود المكائد السياسية فى ظل هذه الظروف"!.
كما انتقد آخرون القرار. وتكهن البعض بأن فيكتور كورينكو قد طُرد لأنه "كان من المستحيل إزاحة الجنرال زالوزني".
لكن الدائرة الداخلية للجنرال زيلينسكى تجد صعوبة متزايدة فى إقناع حتى حلفائه المقربين بضرورة التزود بالأسلحة الإضافية والأموال والموارد الأخرى التى يحتاجونها لصد القوات الروسية.
وخلال عطلة نهاية الأسبوع يومى ٤ و٥ نوفمبر ٢٠٢٣ وقبل إعلان فولوديمير زيلينسكى تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى فى أوكرانيا، تحدثت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية عن زيارة إلى كييف ورحبت بجهود أوكرانيا للتحضير لهذه الزيارة من أجل إجراء مفاوضات رسمية بهدف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى مع التأكيد على أن البلاد حققت "تقدمًا ممتازًا"!.
لقد استطاع الهجوم المضاد الحالى تقويض آمال الغرب فى أن تستخدم أوكرانيا لإرغام الرئيس الروسى فلاديمير بوتين على التفاوض. كما أنه أثار تساؤلات حول قدرة الجنرال زالوزنى على إيقاف روسيا عن طريق نزيف قواته.
"لقد أخطات" هكذا اعترف الجنرال فى مجلة الإيكونوميست وفى الوقت نفسه بدأت بعض الدول الأوروبية أيضًا فى مراجعة التزاماتها الوطنية والواقع أن رئيس الوزراء السلوفاكى الجديد روبرت فيكو أعلن فى أكتوبر الماضى أن سلوفاكيا لن تزود أوكرانيا بالأسلحة بعد الآن.
تصريحات جيورجيا ميلونى الأخيرة
ومن المؤكد أن رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني تشير إلى أنها قد تكون حذرة بشأن الدعم والمساندة على الأمد البعيد. حتى الآن كانت جيورجيا ميلونى تدعم أوكرانيا وتدين موسكو متجنبة الضغوط الداخلية بما فى ذلك الضغوط التى تمارسها عناصر داخل ائتلافها الذين كانوا أكثر تعاطفًا مع بوتين وروسيا؛ لكن مع نهاية أكتوبر ٢٠٢٣ ظهرت خطوط التصدع بوضوح داخل الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى كما تمت دعوة رئسة الوزراء الايطالية لإجراء تقييم صريح للحرب فى أوكرانيا.
وصرحت "أرى بأن هناك الكثير من التعب.. يجب أن أقول الحقيقة" هذا ما اعترفت به ميلونى فى لقاء أجرى فى سبتمبر ٢٠٢٣ مع دبلوماسيين أفارقة وأضافت قائلة: "نحن قريبون من اللحظة التى يفهم فيها الجميع أنه يتعين علينا إيجاد مخرج" و"المشكلة هى إيجاد حل مقبول للطرفين دون خرق القانون الدولي".
كما أكدت أن استمرار الهجوم المضاد لأوكرانيا "لا يلبي" آمال كييف ويبدو أنه لن يغير "مصير الصراع". واعترفت بأن الحرب "قد تستمر لسنوات عديدة إذا لم نحاول إيجاد حلول".
وبعد هذه المشاركة والتصريحات، أعربت الدائرة الداخلية لميلونى عن "أسفها" عقب هذه التصريحات التى كان يجب أن تبقى سرية، أما مستشارها الدبلوماسى فقد استقال! سواء تم خداعها أم لا فإن تصريحات رئيسة مجلس الوزراء الإيطالية تؤكد وجود الانشقاقات التى بدأت تتضاعف داخل الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى فيما يتعلق بالمساعدة العسكرية لأوكرانيا.
فى غضون ذلك، أعلن فولوديمير زيلينسكى فى خطابه الذى ألقاه فى السادس من نوفمبر ٢٠٢٣، "لكل من يرى أن أوكرانيا قادرة على هزيمة الغزاة الروس بشرط أن تظل البلاد موحدة، فإن انتصارنا يمكن تحقيقه". وقال: "سنحقق ذلك إذا واصلنا جميعا التركيز على هذا الهدف، دون الالتفات إلى أية مصالح سياسية أو شخصية" كما أصر على أنه يجب التخلى عن الخلافات عديمة الفائدة.
ويبدو أن الجماهير قد أدركت أن: خطوط الصدع والانشقاق بدأت تندلع بين معظم فئات الطبقة السياسية الأوكرانية وداخل الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبي.. كل هذا لا يترك مجالًا للشك فيما يخص نتيجة "العملية الخاصة" الروسية فى أوكرانيا والتى لن تكون مطلقا كما تمنى "الخبراء" الغربيون.
أوليفييه دوزون: مستشار قانونى للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والبنك الدولى. من أهم مؤلفاته: «القرصنة البحرية اليوم»، و«ماذا لو كانت أوراسيا تمثل الحدود الجديدة؟» و«الهند تواجه مصيرها».. يتناول فى مقاله، الصراع الداخلى فى أوكرانيا بعد فشل الهجوم المضاد وتأثير ذلك حتى على الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبى.