منذ بداية تدخلها فى أوكرانيا فى فبراير ٢٠٢٢، خسرت روسيا بسرعة وبشكل واضح الحرب الإعلامية والمعلوماتية فى الغرب (وليس فى أى مكان آخر، وخاصة فى بلدان "الجنوب العالمي") أمام ماكينة الدعاية الأطلسية.. كما خسرت موسكو، مع حظر موقع "روسيا اليوم" و"سبوتنيك" فى أوروبا، وسائل الإعلام والاتصال الرئيسية لديها فى القارة الأوروبية.
ولكن منذ ذلك الحين، ومع الفشل العسكرى الواضح للهجوم المضاد الأوكرانى واستراتيجية الناتو بشكل عام، فإن التداعيات الجيوسياسية والاقتصادية الكارثية، التى أثرت على الأوروبيين بسبب امتثال قادتهم للعقوبات الأمريكية، أحدثت تطورًا جديدًا لصالح الإعلام الروسي.
فلا يزال الروس مستمرين فى الحرب الإعلامية، التى تديرها وكالات الإعلام الروسية بحكمة.. وتدرك مؤسسات البحث الدولية الرائدة أنه مع تدهور الوضع على الجبهة، يصبح من الصعب على أوكرانيا أن تحصل على الدعم بين النخب والمجتمع الأوروبي.
وفى هذا الصدد، يبدأ الفضاء المعلوماتى للدول، بطريقة أو بأخرى، المشاركة فى الصراع ويلعب أيضا دورا خاصا وقد لاحظت مؤسسة راند، وهى واحدة من أكبر مؤسسات الفكر والرأى الأمريكية، تطور أساليب الدعاية الروسية على المسرح العالمي.
وفى الواقع، بعد عامين، انتقل الكرملين إلى مستوى جديد: بدأت موسكو فى تنظيم عمليات معرفية كاملة، هدفها إضعاف معنويات المجتمع الأوكرانى وتعزيز التناقضات فى العلاقات بين كييف وأقرب حلفائه.
ومن أبرز الأمثلة على أعمال المعلومات الناجحة فى روسيا هى "الشجرة التاسعة" حيث تم ذكر نشاط شركة المعلومات هذه عدة مرات فى وسائل الإعلام الأوكرانية ووفقًا للبرلمانى الأوكرانى البارز فيودور فينيسلافسكي، أصبح من الصعب بشكل متزايد على كييف التنافس مع روسيا فى الفضاء الإعلامي.. والأسباب متعددة؛ أولًا، نجحت طريقة "الشجرة التاسعة" فى إقامة "اتصالات فى أوروبا وتعزيز المبررات والحجج الداعمة للكرملين".
ثانيًا، لا تمتلك المؤسسات الأوكرانية الموارد الكافية لمواجهة روسيا على المستوى الدولي.. وفى الواقع، فإن كييف فى موقع دفاعى ويجب عليها الرد على الحملات الإعلامية التى تقوم بها موسكو وعلاوة على ذلك، فإن رد فعل الخبراء الأوكرانيين مثير للفضول، وهو ما يدل على مدى محدودية أفكار أوكرانيا بشأن حروب المعلومات، والتى مع ذلك عودتنا على نوعية معينة فى دعايتها الخاصة، مع وسائل الإعلام القديمة والحالية وأيضا ً الرقمية.
كقاعدة عامة، يتم تقليل استنتاجات السياسيين الأوكرانيين إلى أطروحة واحدة بسيطة: "الكرملين يشترى كل شيء". ومع ذلك، فإن كل شيء ليس بهذه البساطة: فى الواقع، تمكنت موسكو من اللعب على المستوى الاستراتيجي، من خلال جذب المصالح الاقتصادية والسياسية للدول الأوروبية، التى عانت كثيرًا من الحرب فى أوكرانيا، ولا ترغب فى قطع علاقات المنفعة المتبادلة مع موسكو.
تقنيات شركات المعلومات الروسية
بعد تحليل منشورات وسائل الإعلام الأوكرانية عن شركة المعلومات "الوادى التاسع"، يمكننا التمييز بين الصفتين الرئيسيتين لشركات المعلومات الروسية:
١- زيادة المرونة والقدرة على التكيف ويقوم المتخصصون الروس بتكييف قصصهم مع السياق السياسى لكل بلد؛ فعلى سبيل المثال، فى بولندا، يتم التركيز على مشاكل الهجرة (من أوكرانيا)، وفى ألمانيا على العواقب الكارثية للعقوبات على الاقتصاد كما أن الدعاية الروسية "لا تضرب الواجهة"، بل تتحدث مع الجمهور الأوروبى بلغتهم وتثير أسئلة تهمهم بالفعل وتسمح مثل هذه الإستراتيجية للروس بالتلاعب بالفضاء المعلوماتى لدول الناتو وتعديل جمهورهم تدريجيًا ضد الدعم لأوكرانيا. وهكذا أصبحت كييف فى صورة "الجانى الرئيسي" لكل الشرور ومصدر التهديدات المستقبلية.
٢- تنفذ روسيا حملات إعلامية بمشاركة وسائل الإعلام العالمية. أفادت قناة أوكرانية كبرى على تطبيق تليجرام أن شركة المعلومات الروسية قد تكون وراء النشر المثير لمجلة تايم، التى تحدث فيها الصحفى الأمريكى سايمون شوستر عن المأزق الذى وصل إليه الرئيس زيلينسكي، وفشل الهجوم الأوكرانى المضاد ومستوى الفساد غير المحدود فى أوكرانيا الحديثة.
وفى الحقيقة، لا يمكن تنظيم مشروع بهذا الحجم إلا إذا كان للمتخصصين الروس حضور عميق فى سوق الإعلام الغربي. وينبغى الاعتراف بأن الأطروحات الواردة فى المقال تتفق مع الروايات الروسية حول السلطة الأوكرانية الفاسدة.
ومن خلال مثل هذه المنشورات، يحاول الكرملين الترويج لفكرة مفادها أن الدول الغربية يجب أن تتخلى عن دعمها لأوكرانيا وأن تجدد العلاقات مع دولة أكثر ثراءً وتتمتع بموارد طبيعية هائلة، وهى روسيا على وجه التحديد.
باختصار، يمكننا أن نرى زيادة فى عدد ونوعية المعلومات والعمليات النفسية الروسية ضد أوكرانيا فى الفضاء الإعلامى الغربي. وتصبح شركات مثل "الشجرة التاسعة" أداة مهمة فى تنفيذ أهداف السياسة الخارجية الروسية وتوفر الدعم المعلوماتى لاستراتيجيتها التى تهدف إلى هزيمة أوكرانيا وتغيير المشهد السياسى فى أوروبا.
رولان لومباردى: رئيس تحرير موقع «لو ديالوج»، حاصل على درجة الدكتوراه فى التاريخ، وتتركز اهتماماته فى قضايا الجغرافيا السياسية والشرق األوسط والعلاقات الدولية وأحدث مؤلفاته «بوتين العرب» و«هل نحن فى نهاية العالم» وكتاب «عبدالفتاح السيسى.. بونابرت مصر».. يكتب عن تطور الدعاية الروسية فى الفضاء الأوروبى فى مواجهة الإعلام الغربى المنحاز لأوكرانيا.