الشيطان والحسد، مبرران اجتماعيان مصريان جاهزان، لتبرير جزء كبير من مشاكلنا الاجتماعية، وجزء أكبر من قصورنا في أداء واجباتنا. مبرران جاهزان للهروب بعيدًا عن جذور مشاكلنا، بحثًا عن حلها، والتمسك بقشورها، التي لا تساعدنا على الحل، بقدر ما تساعد في التبرير، للحفاظ على ماء وجوهنا. ولأؤكد مدى عمق ذلك في الوعي الشعبي، سأحكي لكم حكاية "البغل الذي دخل الإبريق"، التي تحكي عن رجل وزوجته. الرجل كان فلاحًا يكد في عمله، لإطعام زوجته، ذات الجمال الفائق، والتي كانت راضية وسعيدة مع زوجها الفلاح الفقير. كان الزوجان يعيشان في هناءة وسرور. يعمل الفلاح طوال اليوم، ليعود مساء لبيته، فيجد زوجته في انتظاره، بإبريق الماء ليغسل يديه وقدميه، ثم يتناول عشاءه، الذي قامت بإعداده خصيصًا له. ظل الزوجان على هذا الحال مدة من الزمن، لم ينغص أحد عليهما حياتهما، حتى اقتحم عمدة القرية حياتهما، الذي أعجبه جمال الزوجة، واستكثر على ذلك الفلاح المعدم أن تكون له زوجة بمثل هذا الجمال. بدأ العمدة يتقرب من السيدة، ويتودد إليها، وما كان من الزوجة إلا أن قامت بصده أكثر من مرة. بدأ يزيد من إغرائه لها، قائلًا لها: "كيف بمثلك، ذات الجمال الفاتن، يقبل بالحياة مع مثل هذا الرجل الفقير؟ فأنت تستحقين من يجعلك أميرة". مثل هذا الكلام بدأ يترك أثره في نفس السيدة، مما انعكس على طريقة معاملتها لزوجها المسكين، فيعود مجهدًا ومرهقًا، فلا يجد إبريقًا ولا ماءً ولا طعامًا، بل لا يجد اهتمامًا به من زوجته، التي بدأت مرحلة من التمرد على حياتها معه، مدعية المرض تارة، وعدم القدرة على مواصلة العيش مع زوجها تارة أخرى. كان الزوج صبورًا في رد فعله، وفي تحمله لظروف زوجته، ظنًا منه في بداية الأمر أنها مريضة، ولما طال الأمر ورأى تمرد الزوجة على استكمال الحياة معه، فتذكر لها معاملتها الطيبة، وطلب منها الراحة، حتى فاجأته بطلبها الطلاق منه. حاول الزوج جاهدًا إثناءها عن قرارها، ولكنها أصرت، وانتهى الأمر بطلاق الزوج لزوجته. في مساء أحد الأيام اجتمع أهل القرية، محاولين إثناء الزوج عن الطلاق، محاولة منهم للصلح بين الزوج وزوجته. حاول أحد الجالسين أن يبرر ما حدث، قائلا: "دي ساعة شيطان"، فانفجر الزوج قائلًا: لا تظلموا الشيطان، فهو برئ من هذه المشكلة، فالشيطان الحقيقي هو العمدة، الذي ظل يحاول مع زوجته حتى جعلها تتمرد على حياتهما الهادئة. بعد أن انصرف الحاضرون، خلد الزوج إلى النوم، فلما راح في نوم عميق، جاءه الشيطان في منامه، مرتديًا ثوبًا أبيض، على هيئة الملائكة، وقال للزوج: لقد برأتني مع أهل قريتك، وأعدك بأن أعيد زوجتك إليك. ولكنني أطلب منك طلبًا، أنك في الصباح ستجدني بغلًا قويًا مربوطًا أمام منزلك، خذني إلى السوق، واعرضني للبيع، وكلما جاءك تاجر ارفع في سعري، حتى يأتيك هذا العمدة فقم ببيعي له. بالفعل فعل الفلاح الفقير ذلك، وباع البغل/ الشيطان له بسعر غالٍ جدا. عاد العمدة مختالًا وفرحًا، لأنه اشترى البغل الذي عجز التجار عن شرائه، وقرر أن يعد حفلًا لزواجه من تلك السيدة التي طلقها من زوجها، واحتفالًا بهذا البغل. دعا العمدة جمعًا كبيرًا من الناس، وصمم أن يخدمهم بنفسه، بأن يصب لهم الماء من الإبريق بعد تناولهم الطعام. في هذه اللحظة كان العمدة يربط البغل في مكان قريب من مقر الاحتفال. فجأة وجد العمدة البغل يصغر أمامه حتى صار صغيرًا جدًا، لدرجة أنه قفز في الإبريق، واختفى بداخله. هنا صاح العمدة قائلًا: البغل دخل الإبريق، فظنه الناس يمزح، فراح يكررها مرات عدة، فاعتقد الناس أنه فقد عقله وصار مجنونًا. أصر أبناؤه على إدخاله مستشفى الأمراض العقلية، فتراجعت الزوجة المتمردة عن قرارها في الزواج به. وعاد الشيطان إلى الفلاح ليلًا وأخبره أنه نفذ وعده له، لأنه الوحيد الذي رآه يتحدث بكلام طيب عنه. وفي النهاية عادت الزوجة إلى زوجها الأول، بعد أن أدركت خطأ بتمردها على حياتها. إلى هنا تنتهي هذه الحكاية الشعبية المصرية، ولكن ما علاقة هذه الحكاية، وما علاقة الشيطان، وكذلك الحسد، بموضوعنا "ثقافة التبرير؟".. هذا هو موضوع مقالنا المقبل بإذن الله.
* أستاذ الأدب الشعبى بكلية الآداب، جامعة القاهرة