فى مثل هذا اليوم 14 نوفمبر 1893م، توفي على باشا مبارك، الذي يعتبر أحد الأعلام الهامة والتاريخية والتى سيظل التاريخ المصرى يتذكرها بكل احترام وتقدير لما كان له من دور أساسى فى النهضة التعليمية بمصر.
ولد علي مبارك في قرية برمبال الجديدة والتابعة لمركز منية النصر بمحافظة الدقهلية سنة 1239 هـ 1823م ، ونشأ في أسرة كريمة، وكانت ولادته مبعث فرح لأبويه وأهل القرية نظرا لكونه كان الولد الأول على أخوة من الأناث.
حفظ على مبارك القرأن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ودفعه ذكاؤه الحاد وطموحه الشديد ورغبته العارمة في التعلم إلى الهرب من بلدته ليلتحق بمدرسة الجهادية بالقصر العيني سنة 1251هـ - 1835م، وهو في الثانية عشرة من عمره، وكانت المدرسة داخلية يحكمها النظام العسكري الصارم، وبعد عام ألغيت مدرسة الجهادية من القصر العيني، واختصت مدرسة الطب بهذا المكان، وانتقل علي مبارك مع زملائه إلى المدرسة التجهيزية بأبو زعبل، وكان نظام التعليم بها أحسن حالاً وأكثر تقدمًا من مدرسة القصر العينى.
امضى على باشا مبارك ثلاث سنوات بتلك المدرسة واختير بعدها مع مجموعة من المتفوقين للالتحاق بمدرسة المهندسخانه في بولاق سنة “1255 هـ - 1839م”، وكان ناظرها مهندس فرنسي يسمى “يوسف لامبيز بك”، ومكث علي مبارك في المدرسة خمس سنوات درس في أثنائها الجبر والهندسة والكيمياء والمعادن والجيولوجيا، والميكانيكا، والفلك، والأراضي وغيرها ، حتى تخرج فيها سنة 1260 هـ - 1844 بتفوق.
بعثة فرنسا :
اختير ضمن مجموعة من الطلاب النابهين للسفر إلى فر نسا في بعثة دراسية سنة 1844م، وقد لعب الحظ دورا كبيرا مع على مبارك فى تلك البعثه، حيث ضمت هذه البعثة أربعة من أمراء بيت محمد على وهم : اثنين من أبنائه، واثنين من أحفاده ، وسميت هذه البعثه بأسم بعثة الانجال، وكان أحد الأبناء إسماعيل بك إبراهيم، الذي صار بعد ذلك الخديوى اسماعيل، واستطاع على مبارك أن يتعلم اللغه الفرنسية حتى أجادها إجادة تامة.
بعد أن قضى ثلاث سنوات في المدفعية والهندسة الحربية، وظل بها عامين، التحق بالجيش الفرنسي في فرنسا للتدريب، ولم تطل مدة التحاقه إذ صدرت الأوامر من عباس الأول الذي تولى الحكم بعودة علي مبارك.
عهد عباس الأول :
بعد أن عاد على باشا مبارك إلى مصر عمل بالتدريس، ثم التحق بحاشية الخديوى عباس بعد أن اصبح حاكما على مصر، مع اثنين من زملائه في البعثة، وأشرف معهما على امتحان المهندسين ، وصيانة القناطر الخيرية، واشترك معهما فى العديد من الأعمال التى كانوا يكلفون بها.
كان قد عرض على الخديوى عباس مشروعًا لتنظيم المدارس تبلغ ميزانيته مائة ألف جنية ، فاستكثر عباس الأول المبلغ ، وأحال المشروع إلى علي مبارك وزميليه، وكلفهم بوضع إدارة ناظر واحد ، وإلغاء مدرسة الرصدخانة لعدم وجود من يقوم بها حق القيام من أبناء الوطن، وإرجاء فتحها حتى تعود البعثة التي اقترح إرسالها إلى أوروبا فتديرها.
بعد أن تولى على مبارك إدارة ديوان المدارس أعاد ترتيبها وفق مشروعه، وعين المدرسين، ورتّب الدروس، واختار الكتب، واشترك مع عدد من الأساتذة في تأليف بعض الكتب المدرسية، وأنشأ لطبعها مطبعتين، وباشر بنفسه رعاية شئون الطلاب من مأكل وملبس ومسكن، وأسهم بالتدريس في بعض المواد، واهتم بتعليم واهتم بتعليم اللغه الفرنسية للدارسين.
حرب القرم :
ظل علي مبارك قائمًا على ديوان المدارس حتى تولى سعيد باشا الحكم في 16 يوليو 1854م فعزله عن منصبه وابعده عن نظارة مدرسة المهندسخانة بفعل الوشاة، وألحقه بالقوات المصرية التي تشارك مع الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا ، وانتهت هذه الحرب المعروفة بحرب القرم بانتصار العثمانيين.
استغرقت مهمته سنتين ونصف سنة، أقام منها في اسطنبول أربعة أشهر، تعلم أثنائها اللغة التركية، ثم ذهب إلى منطقة القرم وأمضى هناك عشرة أشهر، واشترك في المفاوضات التي جرت بين الروس والدولة العثمانية، ثم ذهب إلى بلاد الأناضول حيث أقام ثمانية أشهر يشرف على الشئون الإدارية للقوات العثمانية المحاربة، وينظم تحركاتها، وأقام مستشفى عسكري بالجهود الذاتية لعلاج الأمراض التي تفشت بين الجنود ، لسوء الأحوال الجوية والمعيشية ، وبعد عودته إلى القاهرة فوجئ بأن سعيد باشا سرح الجنود العائدين من الميدان ، وفصل كثيرًا من الضباط ، وكان علي مبارك واحدًا ممن شملهم قرار إنهاء الخدمة.
من نظارة المعارف إلى معلم محو أمية :
عزم علي مبارك بعد فصله من وظيفته على الرجوع إلى بلدته برمبال واشتغل بالزراعة ، غير أن يد القدر تدخلت فعاد إلى الخدمة بديوان الجهادية، وتقلّب في عدة وظائف مدنية، ولا يكاد يستقر في وظيفة حتى يفاجأ بقرار الفصل والإبعاد دون سبب أو جريرة ، ثم التحق بمعية سعيد دون عمل يتناسب مع قدرته وكفاءته ، حتى إذا طلب سعيد من أدهم باشا الإشراف على تعليم الضباط وصفّ الضباط القراءة والكتابة والحساب، احتاج أدهم باشا إلى معلمين للقيام بهذه الوظيفة، وسأل علي مبارك أن يرشح له من يعرف من المعلمين الصالحين لهذا المشروع ، فإذا بعلي مبارك يرشح نفسه لهذا العمل، وظنّ أدهم باشا أن علي مبارك يمزح ! ، فكيف يقبل من تولّى نظارة ديوان المدارس أن يعمل معلمًا للقراءة والكتابة ؟! ، لكن علي مبارك كان جادًا في استجابته ، وعزز رغبته بقوله له : "وكيف لا أرغب انتهاز فرصة تعليم أبناء الوطن وبث فوائد العلوم ؟! فقد كنا مبتدئين نتعلم الهجاء ، ثم وصلنا إلى ما وصلنا إليه".
لما عرض أدهم باشا الأمر على سعيد باشا أسند الإشراف على المشروع لعلي مبارك، فكون فريق العمل، ووضع المناهج الدراسية وطريقة التعليم، واستخدم كل وسيلة تمكنه من تحقيق الهدف ، فكان يعلّم في الخيام ، ويتخذ من الأرض والبلاط أماكن للكتابة ، ويكتب بالفحم على البلاط ، أو يخط في التراب ، فلما تخرجت منهم دفعة ، اختار من نجبائهم من يقوم بالتدريس ، ثم أدخل في برنامج التدريس مادة الهندسة، ولجأ إلى أبسط الوسائل التعليمية كالعصا والحبل لتعليم قواعد الهندسة ، يجري ذلك على الأرض حتى يثبت في أذهانهم ، وألّف لهم كتابًا سماه تقريب الهندسة ، وهكذا حول هذا المعلم المقتدر مشروع محو الأمية إلى ما يقرب من كلية حربية، وما كادت أحواله تتحسن وحماسه للعمل يزداد حتى فاجأه سعيد باشا بقرار فصل غير مسئول في مايو 1862م.
الأعمال العظيمة :
تولى الخديوي إسماعيل الحكم في 18 يناير 1863م وكان قد زامل علي مبارك في بعثة الأنجال ، فاستدعاه فور جلوسه على عرش البلاد، وألحقه بحاشيته، وعهد إليه قيادة مشروعه المعماري العمراني، بإعادة تنظيم القاهرة على نمط حديث وذلك عن طريق شق الشوارع الواسعة ، وإنشاء الميادين، وإقامة المباني والعمائر العثمانية الجديدة، وإمداد القاهرة بالمياه وإضاءتها بالغاز، ولا يزال هذا التخطيط باقيًا حتى الآن في وسط القاهرة ، شاهدا على براعة علي مبارك وحسن تخطيطه، أسند إليه إلى جانب ذلك نظارة القناطر الخيرية ليحل مشكلاتها، فنجح في ذلك وتدفقت المياه إلى فرع النيل الشرقي لتحيي أرضه وزراعاته، فكافأه الخديوي ومنحه 300 فدان، ثم عهد الخديوي إليه بتمثيل مصر في النزاع الذي اشتعل بين الحكومة المصرية وشركة قناة السويس فنجح في فض النزاع، الأمر الذي استحق عليه أن يُكّرم من العاهلين: المصري والفرنسي.
أصدر الخديوي قرارًا في 23 أكتوبر 1866م بتعيينه وكيلا عامًا لديوان المدارس، مع بقائه ناظرًا على القناطر الخيرية وفي أثناء ذلك أصدر لائحة لإصلاح التعليم عُرفت بلائحة رجب سنة 1284 هـ، 1868م ثم ضم إليه الخديوي ديوان الأشغال العمومية، وإدارة السكك الحديدية ونظارة عموم الأوقاف والإشراف على الاحتفال بافتتاح قناة السويس، ومع ظهور الوزارات كمؤسسات هامة في حكم البلاد سنة 1878 1 تولى علي مبارك ثلاث وزارات: اثنتين منها بالأصالة، هما الأوقاف والمعارف، والثالثة هي الأشغال العمومية.
غير أن أعظم ما قام به علي مبارك لا يزال أثره باقيًا حتى الآن، هو إنشاؤه دار العلوم، ذلك المعهد الذي لا يزال يمد المدارس بصفوة معلمي اللغة العربية كما أصدر مجلة روضة المدارس لإحياء الآداب العربية ، ونشر المعارف الحديثة.
وفاته :
كانت نظارة المعارف في وزارة رياض باشا آخر مناصب علي مبارك فلما استقالت سنة 1891م لزم بيته، ثم سافر إلى بلده لإدارة أملاكه، حتى مرض، فرجع إلى القاهرة للعلاج ، فاشتد عليه المرض حتى وافته المنية في 14 نوفمبر 1893م.