لا توجد عين بريئة، لأن العين تأتي إلى عملها محملة بتاريخها القديم، وتهمس بماضيها وحاضرها الخاص وبالتلميحات القديمة والجديدة، فهي لا تعمل بمفردها بوصفها أداة ذاتية، ولكنها تعمل بوصفها جزءًا فعالًا في كائن حي مركب ومتقلب الأطوار، ليس فقط في كيفية الرؤية، فعمل العين لا يقتصر على مجرد الرؤية، وإنما هي تنظم ما تراه وفقًا للحاجة والميل، وتنفي وترفض وتصنف وتحلل وتركب، والعين في أغلب الأحيان ليست كالمرآة كما تأخذ تعطي، أو كما تستقبل تعكس، إن ما تأخذه لا ترسله ولا تعطيه كما هو، وكأنها مادة خام بدون خواص، لا شيء يُرَى كما هو مجردًا أو خاليًا.
نحن عندما نرى شيئًا في الواقع إنما نراه مصبوغًا بخبراتنا وآمالنا ومخاوفنا، نحن نرى العالَم لا كما هو في الواقع؛ بل نراه من خلال أفكارنا ومعتقداتنا؛ التي تلقيناها حين كنا أطفالًا لا نملك القدرة على الفحص والتمحيص، ولقد ترسخت تلك الأفكار والمعتقدات في عقولنا ووجداننا حتى أصبحت تصبغ رؤيتنا للأشياء والأشخاص، والأخطر هو أننا نتوهم أن رؤيتنا موضوعية تعبر عن الحقيقة بوضوح وجلاء وأن رؤية غيرنا المخالفة لنا هي الباطل بعينه. وتبدأ المآسي البشرية حين يحاول كل صاحب رؤية فرض رؤيته على غيره بالقوة.
العين ليست آلة صماء كالكاميرا تُصَوِّر الواقع كما هو، وتنقله بحذافيره إلى المخ، بل إنها مصبوغة بلون معين؛ لون بيئتها (أي بيئة صاحبها، ومعتقده الديني، وتربيته، ومستواه الثقافى، ودرجة تعلمه، وطبقته الاجتماعية...إلخ). ووفقًا لهذا اللون الذي يصبغ أعيننا؛ وكأن البشر يرتدون نظارات ملونة، فهناك من يرتدي نظارات ذات زجاج أزرق اللون، وآخرون يرتدون نظارات حمراء أو خضراء أو صفراء. إن كل واحد منا يرى العالَم مصبوغًا باللون الأحمر إذا كانت نظارته حمراء، ويراه أزرق اللون إذا كانت نظارته زرقاء... إلخ. نرى أشياءً دون أشياء، رغم تجاور هذه وتلك أمام ناظرينا!! إننا لا نرى كل ما هو ماثل أمام أعيننا، بل نرى ما نرغب في رؤيته فحسب. بعبارة أكثر دقة يمكننا القول: إننا لا نرى ما هو ماثل أمام أعيننا، وإنما نرى ما هو كامن وراءها، أي نرى الواقع كما تصوره لنا الأفكار التي تم غرسها داخل رؤوسنا وتم حشوها بها.
إننا لا ندرك كل شيء حولنا، إننا ننتقي ما نريد إدراكه، ونترك ما عداه حتى وإن كان ماثلًا أمام أعيننا، وقد يبدو هذا القول غريبًا أو محيرًا للوهلة الأولى، ولكن الواقع المعيش والتجارب التي أجريت أثبتت صحة ذلك؛ إن السحرة وبعض الساسة ورجال الدين المخادعين يسلكون على نحو يجعل تركيز الناس ينصب على أشياء تثير الاهتمام لتحويل أنظارهم عما لا يريدون منهم أن يروه. يفسر علماء الأعصاب أسباب هذه الظاهرة إلى القدرة المحدودة للدماغ على تذكر الصور المعقدة بتفاصيلها المختلفة، إذ إن الفرد يعطي الأولوية فيما يشاهد لما يعتقد أنه مهم وحقيقي، ويغفل تمامًا عما هو ماثل في الواقع أمام عينيه.
لقد قام عالمان من جامعة هارفارد، وهما «دان سايمانز» و«كريس» بتجربة علمية توضح كيف أن عمل الدماغ يختلف قليلًا عما تراه العين في الحقيقة، وهي تجربة طريفة. فطلبا من شابين القيام بتجربة على عدد من المتطوعين الذين شاركوا دون علمهم بطبيعة التجربة - تم الكشف عنها لهم لاحقًا - وأثناء تعبئة المتطوعين لنموذج يقوم أحد الشابين بالانحناء تحت الطاولة ليقوم صاحبه الذي كان مختبئًا بالوقوف، وهكذا بالتناوب. وأسفرت نتيجة هذه التجربة عن أن ٧٥٪ من المتطوعين لم يلحظوا أن الشاب الآخر ليس هو نفسه الشاب الأول، أي أن أعين المشاهدين لم تلحظ الفرق الكبير في الأشياء التي أمامها، وهو ما فسره العالمان على أن العين لا ترى كل ما هو ماثل أمامها؛ لأن تركيز كل متطوع كان منصبًا على النموذج المراد تعبئته، لا على الشابين، وما إذا كانا هما شخصًا واحدًا أم شخصين. كانت دهشة المتطوعين كبيرة حين اكتشفوا أن من استقبلهم عند قدومهم شابان وليس واحدًا، وأنهم لم يلحظوا هذا الفرق الكبير بين الشابين الأول والثاني!
بقي أن نقول إنه لا بد أن نعرف أن دائرة إدراكنا محدودة، وهذا يصل بنا إلى نتيجة بالغة الأهمية، تقول بضرورة أن يكون تسامحنا عظيمًا، وتواضعنا أعظم، علينا أن نتسامح مع الآخر، ونكون أكثر تواضعًا معه.
د.حسين علي: أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس
آراء حرة
لا توجد عين بريئة
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق