فى المقال السابق توقفت عند تبرير الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل لاختياره الكلمة الأولى فى عنوان كتابه " زيارة جديدة للتاريخ" وهى كلمة زيارة...
"فى هذا المقال أكمل لك عن سبب اختياره للكلمة الثانية من عنوان كتابه وهى كلمة
"جديدة "حيث شرح الكاتب الكبير سبب اختياره لها بقوله:
كلمة "جديده 'هنا تحتاج المسأله فيها إلى توضيح دقيق، فأنا هنا استعمل كلمه بغير مدلولها الحرفي الضيق...
بمعنى اننى لم أعد فعلا إلى زيارة كل هذه الشخصيات التي أكتب عنها -فذلك لم يعد ممكنا- حتى ماديا بالنسبه لبعضهم...فهناك بينهم من فارق دنيانا ولم يعد فى إمكان أحد منا أن يعود ليزورهم من جديد إلا في عالم الفكر -وهذا ما افعله- وصحيح أن بعضهم ما زال معنا ولكني لم أعد إلى زياره أي منهم مرة أخرى
لغرض كتابة هذه الصفحات...
هي إذن عودة بالفكر وليس عودة بالجسد...
أي أنني أعود إلى أوراقي وإلى انطباعاتي- ثم اترك نفسي أفكر وأتامل...
أفكر وأتأمل بفعل المضارع أي فى ما هو قائم الآن، وبفعل المستقبل أي فيما هو محتمل غدًا،وليس فقط بفعل الماضي أي ما جرى وكان!
وبالطبع فأنا لا أنسب إلى غائب ما لم يقله مستغلا واقع غيابه...
وبالطبع- أيضا _فأنا لا أنسب لأحد ما لم يسمح لي حاضرا بأن أنسبه اليه وان كان قد قاله لعلمى...فغياب احدهم او حتى حضوره مع مرور الأيام لا يعفيني من التزامى أمامه بحفظ ما أفضى به إليّ ثقة وامانة...
لا افعل شئيا من هذا أو قريبا منه بالطبع،وبالقطع فمثل ذلك خارج عن أصول القول وحدوده وحقوق المجالس وحرمتها...
واذن ما الذي أنوي فعله بالضبط في هذه "الزياره الجديده للتاريخ"...؟
لعله يكون ملائما أن اتحدث أولا عما لا أنوي ان أفعله...أننى لا أنوى أن أعود للماضي بممارسه اجتراره: مضغه مرة أخرى وتكراره ثانيا...
ثم أننى لا أنوي أن أجعله حديث ذكريات مما يروي الآباء للأبناء- أو للأحفاد- يحكون لهم حكايات الماضي وقصص أبطاله بصوت يختلج فيه الدفء والحنين إلى أيام مضت ورجال ذهبوا ودنيا غير الدنيا وأيام تباعدت عن أيام...
لا افعل ذلك وليس في نيتي، فالماضي لا يعنيني على الأقل في فصول هذا الكتاب، وإنما الحاضر والمستقبل هما هاجسي وشاغلي قبل وبعد أي اعتبار...
والسؤال الذي يثور هنا هو اذن:
-كيف أزور الماضي وآخذ معي اليه الحاضر المستقبل؟
واجابه السؤال هي أن الجسد لا يستطيع ولا يقدر، انما الفكر هو الذي يستطيع ويقدر...
الفكر ومعه التأمل...
ومع الاثنين يقين بأن التجربة الانسانية لا تنقطع،كما أن حركه التاريخ لا تتقدم من فراغ ولا تترك وراءها ثغرات يطل منها هباء او خواء...
بمعنى أدق فهناك كثير رأيته وسمعته في الماضي ولم أستطع أن أَقْدِرَ - في حينه- معانيه الحقيقية او مراميه البعيدة...
ثم ان هناك كثيرا رأيته وسمعته وكان متاحا للنشر ولكني لم أنشره لأن ضغوط الحوادث وتطوراتها- في حينه- نقلت مواضع الاهتمام وغيرت مواقع التركيز...
وكذلك فان هناك كثيرا مما رأيته وسمعته اكتسب قيمة مستجدة عندما تعرض لاختبارات الحاضر -مما يجعله صالحا لقياس المستقبل...
ثم ان كثيرا مما رأيته وسمعته حوى دروسا وعبرا تستحق منا أن نراجعها ونستخلص منها ما يحتمل ان يكون غذاء لنا وزادا في ظروف قد تكون مشابهة ولا أقول متماثلة...
وصحيح أن التاريخ لا يكرر نفسه لاختلاف ظروف الناس والأمم والاحوال- ولكن أليس صحيحا أيضا أن هناك قوانينا للتاريخ...وأن هذه القوانين تعمل أحكامها اذا تجمعت عناصر وعوامل تستدعى مثل هذه الأحكام؟!
إن كارل ماركس كان على حق حين صاغ مقولته الشهيرة: "إن التاريخ لا يعيد نفسه- واذا فعل- فانه في المرة الأولى مأساة عظيمة وفي المرة الثانية ملهاة مضحكة "
- لكنه من الحق أيضا أن نفرق بين عوده الماضي-
وهي مستحيله- وبين سريان قوانين التاريخ- وهي محققة...!
بقت الكلمه الاخيره في عنوان الكتاب وهي كلمة "التاريخ"
الاسبوع القادم بِإِذْنِ الله أكمل مَقْدَمَهُ الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل لكتابه "زيارة جديدة للتاريخ"..."