الجمعة 03 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فتاة العتبة وبيومي فؤاد وديكارت وانفعال المشاعر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فجأة وجدتني بحاجة إلى التفكير معكم بصوت عالٍ عن انفعال المشاعر، بعدما وجدتها طغت واستفحلت وانتشرت، وغلبت علينا جميعا فوصلت إلى حدود الخطر في هدم العلاقات وتقطيع الصلات، بل ربما أدت إلى قتل معنوي وربما قتل نفس في لحظة غضب.

وحتى لا يظن البعض أنني أقصد الجزء السلبي فقط من انفعال المشاعر فحتى الإيجابي منه إن بدا لحظيًا فى شكل مبهج إلا أن عدم استمراره أصبح مؤذيًا.

وحتى أشارككم ما يدور في ذهني وما أكده "ديكارت" ورغم اختلافي معه في الكثير مما ساقه في كتابه "انفعالات النفس"، إلا أنه قدم قاعدة ثابتة وهي ضرورة معرفة المشاعر والسيطرة عليها، وقال إن المشاعر "ستة" وهي: العجب، الحب، الكراهية، الرغبة، الفرح، الحزن".

 

سأعود معكم لديكارت وسينوزا وخلافهما حول صراع النفس والجسد على مملكة الغضب وأيهما يحكم؟ لكن الآن أود أن أخبرك أننا دمرنا الكثير من صفاتنا أو كما يقال جيناتنا وتعاليمنا بما زرعوه بداخلنا من مشاعر لحظية وانفعالية.. والأصل في المشاعر هو التأني إن لم يكن في الإحساس ففي البوح بها.

 

أتتذكرون فتاة العتبة، تلك واقعة اغتصاب فجة علنية، تتذكرها بعض الأجيال التي عاصرتها، ولدت حالة انفعال من مشاعر الغضب الذي دون مبرر تحول إلى تعاطف ثم حب ثم فرح ثم حزن.

أوضح لك.. انهالت على الفتاة طلبات الزواج من رجال كثيرين، وتواترت الأخبار وعاش الجميع حالة من توهج المشاعر التي ابتعدت في منطقها عن الواقع، فأعطوا أملًا مزيفًا وسرابًا يحسبه الظمآن ماءً، وتوارت الحادثة كغيرها وبقى الألم مضاعفا لأصحابه، ألم الحادثة وألم الأمل الزائف الذي وزعناه بسخاء مجانا عبر أرصدة من المشاعر لم نتحقق منها ولسنا قادرين على تحويلها إلى واقع.

 

ولا أعرف ما الذي ذكرني بفتاة العتبة.. هل هو اغتصاب أرض عربية؟! لم يسارع حتى الرجال بمشاعر لحظية للوقوف بجوارها! أو أن ما يحدث في فلسطين هي المشاعر الحقيقية التي أود أن أشير إليها، المشاعر التي محصتها السنوات فباتت عقيدة لا تقبل الفصال.

 

أتتذكرون "أكثم" رجل أنقاض الزلزال الذي خرج حيًا بعد أيام، فعرضت عليه نصف النساء الزواج وصار مشهورًا لبضعة أسابيع ثم توارت حكايته فعاش تحت أنقاض الحياة حتى مات دون جلبة.. ودون أن يحاول شخص واحد السؤال عن نصف الحكاية التي لا نراها.

 

حكايات كثيرة ما بين تفويض وتقييد وهتافات ومظاهرات في دول وجامعات ونقابات وبيوت، يقف أحدهم ومعه "ريموت" فينفعل الناس بمشاعر لحظية كدمى ثم يذهب كل منهم في طريقه، كمن يمر على جنازة فيطفئ إذاعة الأغاني ويرفع سبابته وبعد لحظة يعاود الرقص على أغنيته.. الأصل في كل ما يمر ألا يمر سريعا حتى يولد مشاعر صادقة ومستمرة.

 

وحتى لا أطيل عليك وأتركك لمحاكمة بيومي فؤاد وموقف محمد سلام، وإعلانات المنتجات المصرية، وأهرامات الشيخ، وغيرها مما ترسخ بداخلك الانفعال اللحظي للمشاعر فتجرف ما تبقى من عقل، أعود لديكارت الذي جعل النفس هي صاحبة الإرادة في إدارة المشاعر لا الجسد، والذي قال عنه قاصر وعاطل، ومحكوم لا يفكر ولا يختار أبدا. بينما النفس بها الإرادة الموجهة والمتحكمة، بل المسيطرة. هذه الفكرة الديكارتية يؤمن بها تقريبا كل الناس، ويرفضها سبينوزا رفضا قاطعا. فيقول سبينوزا: «ليست النفس (إمبراطورية داخل إمبراطورية)، بل هي تتحرك والجسد بطريقة متوازية وبشكل متزامن. فما يحدث في الجسم، يحدث في العقل، والعكس صحيح. فكل فعل أو انفعال في أحدهما، يوازيه ما يماثله في الآخر،إنهما وجهان لعملة واحدة، لذلك كلما استطاع العقل، كقوة طبيعية في الإنسان، أن يوضح أفكار الأشياء وصورها الذهنية، وجعلها منتظمة ومرتبة وواضحة، فإن انفعالات الجسم ستكون على نظام العقل نفسه».

 

فإذا كان ديكارت يرى أن حدوث الفعل في النفس يؤدي إلى حدوث انفعال في الجسد، والعكس صحيح، فإن سبينوزا يؤكد على العكس تماما. ففعل النفس كصفة فكرية، يوازيه فعل جسدي كصفة امتدادية والعكس صحيح.

 باختصار الفعل أو الانفعال يحدث للإنسان في كليته، وكل ما هنالك أنه يتجلى في النفس بصفة التفكير، أي كإدراك، وفي الجسم بصفة الامتداد، أي كتجسد ملموس. فالخجل يوازيه مثلا احمرار الوجه. إن النفس بحسب سبينوزا، ليست شيئًا متعاليًا ومفارقًا ومتحكمًا ومسيرًا ومبثوثًا في الجسد. بل هي وجه آخر للجسد.

 

وأخيرًا يا صاح فكر وتأنى قبل أن تبوح بمشاعرك.. فإذا بوحت استمر واستمر.. لا تدعم قضية للحظة ثم تنصرف.. لا تلق كلمة إعجاب في قلب أحد ثم تمضي.. لا تزور مريضا مرة بل داوم حتى يشفى.. افرح بتوأدة واحزن بتوأدة.. لا تؤيد ولا تنتقد حتى تعرف الحقيقة كاملة فنصف الصورة لا يكفي.