تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
[email protected]
يفيض إعلامنا بمن يقدَّمون باعتبارهم دعاة، يدعوننا إلى طريق الله باعتبارهم الأعرف بهذا الطريق. ومنهم من لديه خبرة لا تنكر بفنون التأثير في الآخرين: الصوت المتهدج الذي يعلو إلى حد الصراخ ثم ينخفض حتى يصبح همسًا، الانفعال الورع الذي يجعل عيون الداعية وربما عيون المشاهدين تفيض بالدموع. كلها مهارات تدرس في معاهد الإلقاء والتمثيل، وهي لا تعني عند إجادتها سوى صدق الأداء، وهو أمر منبت الصلة بصدق المضمون أو صدق الرسالة.
إنك حين ترى إعلانًا تليفزيونيًّا أو فيلمًا جذابًا متقنًا تتأثر بمضمونه قبولاً أو رفضًا مبهورًا بحرفية الأداء دون أن تتوقف كثيرًا أمام مدى صدق المشاعر أو مصداقية من يقومون بتقديمه أو مدى اقتناعهم الشخصي بمضمون ما يقدمون. ولا يقلل من احترامك -بل إعجابك بمهنيتهم- أن تعرف أن لهم قناعاتهم التي قد تتعارض مع مضمون الإعلان، وأنهم يتقاضون أجرًا مقابل جهدهم في الترويج لذلك المنتج أو غيره؛ فالإعلان علم له قواعده وأصوله التي يتلقاها أبناؤنا في أقسام علمية متخصصة في الجامعات. ولذلك لا نندهش كثيرًا حين نقرأ عن وكالات إعلانية متخصصة في الدعاية الانتخابية أو في الترويج للبرامج السياسية، حيث تقوم تلك الوكالات بإعداد الحملات الإعلامية مقابل أجور معلومة محددة بل ومعلنة في أغلب الأحيان.
ولكن الأمر يختلف بالنسبة للدعاة العقائديين والسياسيين، حيث يكون السؤال الأول الذي يطرحه المشاهدون والمستمعون على أنفسهم هو: ترى، هل يؤمن المتحدث فعلاً بما يدعو إليه؟، هل هو متفرغ للحزب أو للدعوة؟ هل يعتمد في معاشه على ما يبذله من جهد ووقت لإقناعنا بدعوته؟ صحيح أنه ليس ثمة ما يمنع نظريًّا من تقاضي الأجر والاقتناع الشخصي، ولكن الأمر يظل مثار شبهة، خاصة إذا كان للداعية تخصص مهني آخر هجره ليتفرغ لدعوتنا.
إن الضمان الأساسي لنجاح الدعوة الدينية أو السياسية يتمثل في مدى إقناع الجمهور بها. و لم يعد الإقناع الديني أو السياسي، أو ما يسمى بفن الدعوة، أمرًا يمكن أن ينجزه الهواة مهما كانت موهبتهم الإعلانية، بل ومهما بلغ اجتهادهم. لقد أصبحت “,”سيكلوجية الإقناع“,” تكاد تمثل مبحثًا علميًّا مستقلاًّ تشترك فيه علوم النفس والاتصال. حيث يتوقف نجاح الدعوة على عديد من الشروط العلمية التي لا يتسع المقام لتفصيلها، ولكن لعل أهمها ما يلي:
(1) القدوة والمصداقية
إن الترويج العقائدي أو السياسي لا يحتاج إلى دعاة يتقنون مهارات الاتصال والإقناع فحسب،
فلا بد من التمييز بين دور “,”المؤدي الإعلامي“,” ودور “,”الداعية الديني أو السياسي“,”، وإذا كان دور “,”المؤدي الإعلامي“,” هو الدور المطلوب في بعض حالات الدعاية للسلع التجارية مثلاً، فإن دور “,”الداعية الديني أو السياسي“,” يختلف تمامًا. حيث يتعامل الجمهور مع داعية يجسد الفكرة التي يدعوهم إليها. ولعل أول التساؤلات التي يطرحها الجمهور على نفسه وعلى الداعية أيضًا هو ذلك التساؤل التقليدي: تُرى، هل الداعية شخصيًّا مقتنع فعلاً بما يقول؟ والأهم من ذلك: هل هو ملتزم به فعلاً؟ ولا يكفي في هذا الصدد توافر الصدق فيما ينادي به ذلك الداعية، بل لا بد قبل ذلك من المصداقية. وفقدان الداعية لمصداقيته لدى الجمهور كفيل بانهيار دعوته تمامًا.
(2) الاتساق
ونعني به محاولة ضمان الحد الأدنى من عدم التضارب بين الرسائل المتعلقه بالموضوع والصادرة في مواقف مختلفة من نفس المجموعة التي تمارس الدعوة، ولا يتوقف الاتساق المطلوب على مجال الرسائل الإعلامية فحسب، بل لعل الأهم هو مراعاة الاتساق بين الرسالة الإعلامية والسلوك الفعلي لأولئك الدعاة، فمن الخطورة بمكان تصور أن الجمهور يسمع أولئك الدعاة فقط دون أن يرصد سلوكهم الفعلي في مواقف الحياة العملية. كذلك ينبغي أن يتوافر القدر اللازم من الاتساق بين حاضر الدعاة وماضيهم، ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أن المطلوب من الداعية أن يكون أسير ماضيه، فليس من الدعاة العظام حتى في مجال الدعوات الدينية الكبرى من زعموا مثل ذلك الزعم، ولكن المقصود هو توافر أكبر قدر من الشفافية فيما يتعلق بتاريخ الدعاة. شفافية تفسر ما طرأ على مواقفهم من تغيير. وأخيرًا فلا بد من الاتساق بين حجم الدعوة ودعاتها وبين ما يتحقق فعلاً، بمعنى أن يكون واضحًا لدى الجماهير وبشكل مستمر ما تحقق وما لم يتحقق وأسباب التعثر.
بدون مراعاة تلك الشروط وغيرها سيظل الدعاة يبذلون دون كلل جهدهم في الدعوة، وقد يتلقون الكثير من الابتسامات والدعوات بالتوفيق، ولكن ذلك كله لا يكفي لضمان وصول تأثيرهم إلى الجمهور المستهدف.