المسرح هو أكثر الفنون ارتباطا بالنسيج الاجتماعى، وأكثرها قدرة على قراءة المجتمع والتأثير فيه، لأنه يحاكى حياة الناس اليومية ومشكلاتهم الكبرى منها والصغرى وتقاليدهم الاجتماعية، والسياسية، والدينية، وغيرها، شريطة أن يكون حاملا لرسالته الاجتماعية التنويرية ومتماسا مع قضايا مجتمعه، فإذا ما رأى المجتمع نفسه فيه، فسوف يتفاعل معه ويقبل عليه.
القدس واسطة العقد فى المحنة الفلسطينية
احتلت قضية فلسطين فى المسرح العربى المعاصر حيزًا ظاهرًا، واستأثرت باهتمام المسرحيين العرب من المشرق والمغرب، فلم يسكت هؤلاء عن محنة الشعب الفلسطينى المغتصبة أرضه والمستباح عرضه، من قبل الكيان الصهيونى المهاجر إلى الأرض المباركة، ولأن القدس هى واسطة العقد فى المحنة الفلسطينية، بل هى بالذات وجهة الغاصب وهدفه الذى يسعى إليه، فقد كان للمسرح العربى والخشبة واللوعة على القدس المغتصبة بعد أن زادت الهزائم العربية فى الشعور بفداحة الاغتصاب، وأنذرت بليل طويل للعرب أن يتحقق الفتح المبين وتعود القدس إلى العرب والملسمين.
لقد حاولت المسرحية العربية فى حلها وترحالها فى عمق الزمن الفلسطينى، أن تعيش القضية بشكل صادق وعفوى وحقيقى وكم كانت تحتاج إلى اقتناص الساعات البكر وأن تقبض على اللحظات الهاربة والمنفلتة، وقدمت الاعتراف على الخشبة وكرسى الاعتراف بأن حياة «الفلسطينى» كانت درجات ومستويات من المعاناة، وطبقات بعضها فوق بعض لإثبات حالة الوجود وحالة الكيان القومى، إنها حالات ومواقف واختبارات وتجارب على الركح والتحلق حول مائدة المسرح، وكان كل شيء يوحى بالتغيير والتنوير وينبئ بأن المعركة لم تنته بعد، لكنها فى منعطف دقيق وخطير وشديد.
لم تهتم الحركة المسرحية فى الوطن العربى ولا كتاب المسرح بالقضية الفلسطينية، كما اهتم الشعراء وكتاب القصة والرواية بتلك القضية التى هزت وجدان وضمير المواطن العربى من المحيط إلى الخليج، وبالرغم من ذلك حاول المسرح العربى والفلسطينى منذ انطلاقته الأولى، وعند الرواد أن يكون مقاوما ومناضلا، بالرغم من الصدمة العنيفة التى جابهته ألا وهى صدمى استلاب فلسطين من قبل الصهيونية المدعومة بالإمبريالية العالمية، هكذا أوضح الدكتور حفناوى بعلى فى دراسته التحليلية «فلسطين والقدس فى المسرح العربى المعاصر»، مضيفا أنه من قبل النكبة كان عدد الفرق المسرحية فى القدس وما حولها من المدن الفلسطينية كثيرا، وكان يعمل إلى جوار هذه الفرق المسرحية كتاب غزيرين الإنتاج على رأسهم: جميل حبيب بحرى، الذى كتب عددا من المسرحيات النضالية منها: «الوطن المحبوب«، «مأساة الخائن»، و«مأساة فى سبيل الشرف»، كما كتب نصر الجوزى مسرحيات ملتزمة بالقضية منها: «العدل أساس الملك».
وقد اهتم الكاتب برهان الدين العبوشى بهذه القضية فى مسرحياته، فكتب ثلاث مسرحيات شعرية عن القضية الفلسطينية، وهى: «وطن الشهيد» عام 1947، و«شبح الأندلس» عام 1949، و«الفداء» عام 1952، فقد تناول فى مسرحيته الأولى الصراع بين العرب والإسرائيليين، وفى الثانية حرب حنين، حيث قابل الجيش العراقى الجيش الإسرائيلى، وفى الثالثة فكرة الفداء والدفاع عن أرض الوطن حتى الاستشهاد، وقدم الشباب الهواة مسرحية "قراقاش" الشعرية لسميح القاسم، ومسرحيته الثانية «كيف رد الرابى مندل على تلاميذه».
وقدمت فرقة البالونات عدة مسرحيات منها: «قطعة من الحياة» والتى تظهر عاملا عربيا يدفعه اليأس من واقعة إلى تدمير المعمل الذى يعمل فيه، ومسرحية «النشرة الجوية»، وأيضا «ثوب الإمبراطور» التى تروى كيف تدفع السلطات المواطنين إلى رؤية العالم كما تصوره لهم، و"شمشون ودليلة"، و«المعركة»، و«الأشجار تموت واقفة»، و«الأردن على الصليب»، و«ثورة الزنج»، لمعين بسيسو، وهاشم هارون الرشيد، ومسرحية «العتمة»، و«يا عنب الخليل»، و«باجس أبو عطوان يزرع أشجار العنب» لعز الدين المناصرة، والتى تتحدث عن حياة استشهاد المناضل باجس أبو عطوان.
وقدم بعض المسرحيين الشباب أعمالهم فى الأرض قبل الرحيل عنها مثل توفيق فياض الذى كتب مسرحية «بيت الجنون» فى الأرض المحتلة، والتى نشرت عام 1967، وتقدم لنا هذه المسرحية كعلامة بارزة فى أدب المقاومة فى فلسطين المحتلة، وكتب محمود دياب «باب الفتوح»، وسعد الله ونوس «الاغتصاب»، ويوسف وهبى «الصهيونى» وغيرهم.
وتأسست فرقة المسرح الوطنى الفلسطينى عام 1966، وقدمت قرابة 20 مسرحية، تحت رعاية دائرة الثقافة والإعلام فى دمشق، ومن دمشق خرجت إلى النور وجوه فنية وأعمال مسرحية عرضت فى دمشق وخارجها، ومنذ الثمانينات كان للفرقة حظ الاستمرارية فى إنتاج الأعمال سنويا مثل «لكع بن لكع» للمخرج وليد قوتلى، و«المتشائل» تمثيل وإخراج محمد بكرى، وقبلها «مؤسسة الجنون» للمخرج فواز الساجر، ثم استلهم جواد الأسدى مهمة الإخراج المسرحى، فأخرج للفرقة مسرحيات: "العائلة توت"، و«ثورة الزنج»، و«خيوط من فضة«، و«رقصة العلم».
وتعاون مع الفرقة عدد من طلاب وطالبات المعاهد المسرحية العربية، والفنانين من مختلف الدول العربية من: «الأردن، والخليج، وتونس، والجزائر، واليمن» وغيرها، ولا يستطيع أن يتجاهل الذين كتبوا عن إنتاج الشهيد غسان كنفانى أعماله المسرحية الثلاثة التى كتبها: «الباب»، و«القبعة»، و«النبى»، وقدم أحمد صدقى الدجانى مسرحية «هذه الليلة الأخيرة» التى تعد ريادة فى المسرح الفلسطينى المقاوم، كما أنتجت فرقة المسرح الفلسطينى مسرحية «خيوط من فضة» تأليف وإخرج جواد الأسدى، والتى تجسد حالات اغتصاب فلسطين، وقدم زيناتى قدسية مسرحيتين هما «القيامة»، و«مجنون يحكى وعاقل يسمع».
نشأت فرقة «الحكواتى» المسرحية، وقدمت عروضا ذات مستوى فنى رفيع فى عدد من البلدان العربية والأوروبية، وتعد هذه الفرقة من أكثر الفرق المسرحية الفلسطينية احترافا فى الضفة الغربية، وأكثر الفرق الثمانى الموجود شعبية، كما تأسست فرقة القصبة الفلسطينية عام 1970 برام الله، وقدم عروضا متنوعة حتى تغيرت إلى «مسرح الشوك» والذى جاء ليتناسب مع أهدافها وتطلعات الفرقة لتقديم عروضا تجريبية، فى حين تقوم الجامعات والنوادى والنقابات واللجان المتعددة فى الضفة الغربية بتقديم بعض العروض والنشاطات المسرحية، فكل هذه المبادرات تحاول أن تكون جمهور المسرح الفلسطينى وأن تجدد هذا المسرح الملتزم سياسيا واجتماعيا.
وقد طرأ تحول كبير على شكل المؤسسة المسرحية بعد اتفاقية أوسلو، وأصبحت الميزانية المخصصة لوزارة الثقافة محدودة، كما تشكلت مؤسسات تابعة للمجتمع المدنى، صارت تلجأ بعد أن فشلت فى الحصول على المساعدات اللازمة من المؤسسات الرسمية، إلى التمويل الأجنبى لكى تنتج مسرحا، فمسرح عشتار، هو مؤسسة غير حكومية بإشراف إدوارد المعلم، وإيمان عون، وكانت فى الأصل فرقة طلابية لها أهداف تنموية وتربوية، وتأسست فى مدينة القدس عام 1991، وافتتحت فى 1995 مقرها الثانى فى مدينة رام الله، وعملت على تأهيله كفضاء مسرحى من خلال قاعتين واحدة للتدريب وأخرى للعرض تتضمن 70 متفرجا.
وبالتالى تحولت «مؤسسة عشتار» إلى مختبر مسرحى اعتمد بالأساس على تقنية المسرح التفاعلى، وافتتحت مؤخرا أكاديمية لتدريس المسرح، وكذلك "مسرح الحارة" فى بلدة بيت جالا الذى أسسته مارينا برهام، و«مسرح الحرية» الذى أنشئ فى مخيم جنين للاجئين عام 2006، والذى يهدف إلى تطوير مجتمع فنى مبدع وحيوى باعتبار الفن حافزا مهما للتغير الاجتماعى ومقاومة كل أشكال الاضطهاد.
أما فى قطاع غزة، فيعتبر وضع المسرح أكثر صعوبة، ولم تفلح التجارب المسرحية الكثيرة التى شهدها القطاع فى أن تشكل حركة مسرحية واعية تسير باتجاه النضج الفنى والتطور، بل ظلت تدور فى فلك الهواية والنشاط غير الاحترافى، وذلك على الرغم من تجمع مجموعة كبيرة من الشباب على شكل فرق مسرحية، قدمت مختلف ألوان الفن المسرحى خلال السنوات الماضية، وبجهود ذاتية على المستويين المادى والفنى.
وتعد مرحلة التسعينيات الفترة الأهم بالنسبة للمسرح فى قطاع غزة، وظهرت خلالها فرقة «الشموع» المسرحية، وفرقة «الأمل للفن والمسرح»، التى أسسها الفنانان صائب السقا، ونبيل ساق الله، وفرقة «حناضل» التى تأسست عام 1989، وفرقة «مجمع الكرامة» التى تأسست عام 1992، ومؤسسة «أيام المسرح»، وفرقة "مؤسسة الجنوب"، وفرقة "مؤسسة بسمة"، وفرقة «مسرح للجميع»، وفرقة «هيئة مجمع الكرامة» فى رفح، وغيرها من الفرق المسرحية، التى منها ما غاب ومنها ما زال يعمل حتى الآن.
ومنذ بداية التسعينيات من القرن الماضى مع تنشيط المسرح فى الضفة الغربية، فقد درس مجموعة من الفنانين فى الجامعات والمعاهد الإسرائيلية، بمحاولات لإنشاء مسرح عربى فى إسرائيل، منهم الفنان محمد البكرى، والفنانة حنان الحلو، والفنانة سلوى نقارة، وراضى شحادة الذى أصدر كتابا بالغ الأهمية بعنوان «المسرح الفلسطينى فى فلسطين 48 بين صراع البقاء وانفصام الهوية»، واليوم هناك فرق مسرحية عربية فى العديد من المدن الفلسطينية، فى الناصرة، وحيفا، وعكا بخاصة، أغلبها فرق مستقلة، لكنها تتبع لوزارة المعارف الإسرائيلية، ويعانى هذا المسرح الفلسطينى فى إسرائيل من مشاكل الرعاية والهوية والتواصل، ويغلب عليه الطابع السياسى أو السياسى الساخر.
هذا بالإضافة إلى أن هناك كتابا ومخرجين، وفنانين آخرين، إلى جانب العديد من الفرق المسرحية الأخرى تناولوا القضية الفلسطينة فى أعمالهم المسرحية، وذلك بسبب خضوع فلسطين والشعب الفلسطينى لتقلبات سياسية وديموغرافية اختلفت جذريا عما حدث فى المحيط، فقد مر المسرح الفلسطينى بمراحل من الهزات والعزلة، لكنه صار اليوم حقيقة ملموسة على الأرض، واستفاد من تجاربه السابقة وانفتاح العالم وتطور وسائل الاتصال ومن ظاهرة العولمة.