الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

أدب المقاومة في مواجهة الاحتلال

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ليست المقاومة المسلحة مجرد قشرة، هي ثمرة لزراعة ضاربة جذورها عميقا في الأرض، وإذا كان التحرير ينبع من فوهة البندقية، فإن البندقية ذاتها تنبع من إرادة التحرير، وإرادة التحرير ليست سوى النتاج الطبيعي والمنطقي والحتمي للمقاومة في معناها الواسع: المقاومة على صعيد التمسك الصلب بالجذور والمواقف. ومثل هذا النوع من المقاومة يتخذ شكله الرائد في العمل السياسي والعمل الثقافي ويشكل هذان العملان المترافقان اللذان يكمل واحدهما الآخر الأرض الخصبة التي تستولد المقاومة المسلحة وتحتضنها وتضمن استمرار مسيرتها وتحيطها بالضمانات، ومن هنا فإن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبدا أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها، وبالتالي فإن رصدها واستقصاءها وكشف أعماقها تظل ضرورة لا غنى عنها لفهم الأرض التي ترتكز عليها بنادق الكفاح المسلح.

لذا نجد أنه في الفترة التي امتدت بين 1948 و1968 قدم المثقفون العرب في فلسطين المحتلة من خلال أقسى ظروف القمع والأسر الثقافي نموذجا تاريخيا للثقافة المقاومة بكل ما فيها من وعي وصمود وصلابة وأهم من ذلك بكل ما فيها من استمرار وتصاعد وعمق. وفي الواقع فإن أدب المقاومة على وجه الخصوص لم يكن أبدا ظاهرة طارئة على الحياة الثقافية الفلسطينية وفي هذا النطاق فإن المقاومة الفلسطينية قدمت على الصعيدين الثقافي والمسلح نماذج مبكرة ذات أهمية قصوى كعلامة أساسية من علامات المسيرة النضالية العربية المعاصرة.

وحفل التاريخ الفلسطيني منذ الثلاثينيات على الأقل بمظاهر المقاومة الثقافية والمسلحة على السواء وإذا كانت الثورات المسلحة التي خاضها شعب فلسطين قد أنتجت أسماء من طراز عز الدين القسام مثلا، فإن أدب المقاومة قد أنتج قبل ذلك ومعه وبعده أسماء ما زال المواطن العربي يذكرها بكثير نت الاعتزاز ومن أبرزها ابراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي وغيرهم ومن هذه الناحية فإن أدب المقاومة الفلسطيني الراهن مثله مثل المقاومة المسلحة سشكل حلقة جديدة في سلسلة تاريخية لم تنقطع عمليا خلال نصف القرن الماضي من حياة الشعب الفلسطيني.

وما يميز الأدب المقاوم في فلسطين المحتلة منذ 1948 حتى 1968 هو ظروفه القاسية البالغة الشراسة التي تحداها وعاشاها وكانت الأتون الذي خبز فيه انتاجه الفني يوما وراء يوم.

تكمن أهمية الدراسة التي نتناولها الآن في تقديم نماذح ربما تكون مجهولة للكثيرين. نماذج عبرت بشكل رائع عن المقاومة في قالب أدبي أو قل كانت مدارس في أدب المقاومة لقد قدم هذه الدراسة ورصد نماذجها وتناول ما قدموه بالتحليل الوافي واحد من أهم الكتاب الذين ضربوا مثلا رائعا في المقاومة بالعمل والمقاومة بالأدب. إنه غسان كنفاني صاحب هذه الدراسة التي بين أيدينا والتي جاءت تحت عنوان: الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948- 1968.

في بداية الدراسة يقول غسان كنفاني عن الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة: إن عرب فلسطين المحتلة يبذلون نضالا حقيقيا للحفاظ على لغتهم وثقافتهم وتراشهم وفي الواقع فإن المعركة هذه تمثل واحدة من أبشع وسائل الاستعمار الاسكاني في سحق الحركة الوطنية ومحاولة اجتثاثها من جذورها وكي ندرك فعلا ما هي قيمة أدب المقاومة الفلسطيني المحتلة من خلال النتاج الذي أعطانا في العشرين سنة الماضية لابد من إدراك حجم المصاعب التي تشكل التحديات اليومية  في الحياة الثقافية العربية في الأرض المحتلة.

ويقول الكتاب لقد بات من المعروف ان المستوى التعليمي في المدارس العربية أضعف منه بكثير في المدارس اليهودية وكذلك فصل المعلمين الأكفاء وتعيين معلمين انهوا المدارس الابتدائية فقط مكانهم.

ان سياسة التجهيل المتعمد هي سمة بارزة من سمات الاضطهاد  الثقافي الصهيوني لعرب الأرض المحتلة. وفي هذا النطاق تبرز مسألة التعليم وانخفاض مستواه في الوسط العربي كشيء أساسي.

ويورد الكتاب اعتراف لـ "ز. آران" في مقال له بكتاب "اسرائيل اليوم" إن 53 % من المعلمين العرب في اسرائيل غير مؤهلين. ويقول "م. أساف" في الكتاب نفسه: إن عدم توفر أساتذة وكتب وتخطيط بالنسبة للمدارس الثانوية العربية في اسرائيل يؤدي إلى اخفاق كبير في امتحانات الثانوية وإن المجتمع اليهودي لم يستطع امتصاص المتخرجين العرب من المدارس الثانوية ولا طلاب الجامعات العرب، وانه يوجد مشكلة أكبر بالنسبة للعرب الذين يضطرون لترك دراستهم الثانوية. ويعترف أساف بان نسبة تخرج العرب من الجامعات في اسرائيل نسبة منخفضة الاانه يورد أرقاما ومع ذلك فبوسعنا ان نتصور هذه النسبة حين يصل إلى اعتراف أخطر في قوله ان مجموع الطلاب العرب في الجامعات في اسرائيل عام 1967 كان 200 طالب فقط مقابل 19 ألف اسرائيلي.

ويقول الكتاب ان هناك احصاء مروع اخر فمن الجيل العربي الذي بدأ التعليم في الصف الأول سنة 1957 ترك المدرسة 45% منهم في سنة 1964 أي قبل أن ينهوا الصف الثامن.

فإذا كان هذا هو الحل بالنسبة للمدارس  الابتدائية فإن الوضع لابد أن يكون أقسى بكثير في المدارس الثانوية والجامعية، فأساف يقول وفقا للكتاب ان 10 % فقط من العرب الذين تقدموا لامتحانات الشهادة الثانوية عام 1964 نجحوا اما في عام 1963 فقد كان الناجحون 12 %.

يؤكد الكتاب على تدني المستوى التعليمي الذي كان يحصل عليه الطلاب الفلسطنينين تحت حكم الاحتلال الاسرائيلي وهو ما أدركه ادباء المقاومة بل وأدركوا هذه الحقيقة بارتباطاتها السياسية والثقافية المختلفة وقد أدى ذلك إلى تطور في اسلوب التعبير حيث تكيف في الاساس مع متطلبات جبهة القتال الثقافية. فقد لجأ الشاعر مثلا إلى الطريقة الرمزية فالقصيدة الشعرية هي ميدان فسيح للكتابة الرمزية يعبر فيها الشاعر عما يخالجه من شعور قومي دون أن يفصح عن ذلك وكم من مرة خاطب الشعراء أحباءهم قاصدين الوطن فإذا ما كتب الشاعر في قصيدته" الويل للظالم" لا يمكن للسلطات أن تعرف قصده لتتخذ ضده الاجراءات القانونية أما القارىء اللبق فيفهم مرمى الشاعر ويحس بنفس احساساته.

ويقول الكتاب إن الحرب النفسية والاقتصادية والسياسية والبدنية التي تشنها السلطات الاسرائيلية على الثقافة العربية والمثقف العربي كان لها الأثر الأكبر في بلورة الانتاج الأدبي العربي في فلسطين المحتلة ومن ذلك اللجوء للرمز ولم يحدث هذا اللجوء إلا لأن تفسيره موجود في أكثر من سجن واحد وفي فصل أكثر من معلم عربي واحد.

وقد وصل هذا القمع في أبشع صوره وأكثرها اتساعا وقسوة في حزيران 1967 فقد تلقى مئات من المثقفين العرب أوامر تحديد الاقامة بناء على المادة (109) من قانون الطوارئ الاسرائيلي المعمول به بالنسبة للعرب منذ 1948.

يحكي الكتاب قصة الشاعر حبيب قهوجي كنموذج لما يحدث للمثقف العربي في فلسطين المحتلة فقد اعتقل في الخامس من حزيران ووجهت له تهمة التجسس وبعد شهور قليلة اعتقلت زوجته ووجهت له نفس التهمة ومع ذلك فقد اقترحت السلطات الاسرائيلية على الزوجين الاعتراف مقابل السماح لهما بمغادرة البلاد الا انهما رفضا الاقتراح بشدة.

وفي موعد محكامتهما فوجىء محاميهما بأنهما لم يحضرا وعندما اتصل بالشرطة أبلغ أن الزوجين قد اعتقلا لمدة ثلاثة أشهر أخرى بموجب أوامر إدارية.

ويورد الكتاب على لسان منصور كردوش أحد أبرز العناصر الوطنية في الأرض المحتلة: الفن والثقافة سلاحان اذا ما سارا على النهج الهادق رفعا من مفاهيم أمة بكاملها أما الفن والثقافة المجردان فباعتقادي أنهما من مفاهيم عصور الاقطاع والبذخ والرفاهية السطحية ولذلك أرى أن الواجب القومي والاجتماعي والتاريخي لكل من حمل القلم والفرشاة أن يعمل في الاتجاه الهادف كي يكون صاحب رسالة سامية.