تزداد المعاناة فى غزة يوما عن الآخر، مئات الشهداء والمتضررين يوميا، وعائلات صارت بين ليلة وضحاها بلا مأوى، أو كهرباء أو دواء وشحيح من الماء، ويأتى ذلك بالتزامن مع تصعيد آخر تشنه قوات الاحتلال، حيث أطلقوا المرحلة الثانية من الحرب بتوغل بعض من القوات الإسرائيلية فى شمال قطاع غزة لتنفيذ عميلة الاجتياح البرى، مما قد يسفر عن أزمة إنسانية أعنف من الحالية، حيث تشير التوقعات إلى تضاعف أعداد تلك الضحايا إذا تم الاجتياح بشكل كامل.
وخلال الأيام الماضية شهدنا أعمالا بطولية قامت بها الكنائس والمرافق التابعة لها فى قطاع غزة، حيث خاطر رجال الدين بحياتهم فى سبيل خدمة أبناء مدينتهم؛ وكان أبرز تلك الأمثلة واقعة كنيسة القديس "بورفيورس" التى سلطت “البوابة نيوز” الضوء عليها من قبل، حيث استقبلت الكنيسة المتضررين والمنكوبين جراء الحرب، متحدية القوات الإسرائيلية؛ لينتهى الأمر بقصفها وسقوط أكثر من 15 ضحية.
هذا الأمر دفع "البوابة نيوز" لاستكمال تغطيتها بتسليط الضوء على كافة الكنائس فى القطاع لنعرف تاريخها وجذورها، وتقع الكنائس فى غزة بشكل عام فى الجزء الشمالى من القطاع (شمال غزة، محافظة غزة)، ويوجد بداخل القطاع حوالى 3 كنائس ودير، كنيسة للروم الأرثوذكس وأخرى للكاثوليك، والأخيرة للكنيسة الأسقفية.
كنيسة بورفيروس
ونبدأ بقصة أولى الكنائس فى غزة، يقول سفر أعمال الرسل، إن الشماس فيليبس كان على طريق غزة عندما التقى موظف ملكة الحبشة وطلب هذا الأخير منه أن يشرح له الكتاب المقدس. ولم يذكر سفر أعمال الرسل هل توقف الشماس وبشر فى غزة أم لا، ولكن من المؤكد أن المسيحية دخلت غزة منذ القرون الأولى، وقدمت الكثير من الشهداء إبان اضطهاد الأمبراطور الرومانى دقلديانوس (304-284).
وتشير المراجع التاريخية الكنسية، إلى أن الأسقف الذى قضى على الوثنية فى غزة وحولها إلى مسيحية هو القديس بورفيريوس، أسقف غزة (395: 420)، وتم بناء أول كنيسة هناك على اسمه فى مطلع القرن الخامس الميلادى، وتوالت بعدها بناء الكنائس هناك.
كنيسة بوفيروس هى كنيسة أثرية تابعة لكنيسة الروم الأرثوذكس، تقع فى حى الزيتون بمدينة غزة وهى أقدم كنيسة فى المدينة، سميت الكنيسة نسبة إلى القديس برفيريوس الذى دفن فيها، الذى كان له دور فى تحويل غزة من الوثنية وتعدد الألهة إلى الإيمان بالمسيحية، ويوجد للقديس برفيريوس قبر فى الزاوية الشمالية الشرقية للكنيسة.
يعود تاريخ البناء الأصلى لكنيسة القديس برفيريوس إلى عام 425 م فوق معبد وثنى خشبى قديم، وأما عن بناية الكنيسة الحديثة قام بها الفرنج فى خمسينيات أو ستينيات القرن الحادى عشر، وبنيت الكنيسة على طراز البازليكى، وتم تجديد الكنيسة فى العام 1856 لكنها تحتوى بعض الأفاريز والقواعد التى تعود إلى الفترة الصليبية.
ويوجد بداخل الكنيسة نقوش التى تزين جدرانها الداخلية، والتراتيل، تروى قصة القديس برفيريوس الذى حارب المعتقدات غير السماوية فى غزة، وعمل على نشر المسيحية، إلى أن توفى فيها، وفيها ما زال قبره قائما حتى اليوم.
دير القديس هيلاريون الأثرى
يعد دير القديس هيلاريون، المعروف باسم تل أم عامر الأثرى، الدير الوحيد فى غزة، وتم إدراجه فى منظمة اليونسكو كمعلم أثرى فريد، ويرجع تاريخ بنائه إلى العصر البيزنطى، حيث أنشئ فى عام 329م، على يد القديس هيلاريون الذى أقام أول صومعة له للتنسك فى ذلك المكان، وتغطى البقايا الأثرية لدير القديس هيلاريون التى اكتشفتها عام 1997 دائرة الآثار فى غزة مساحة تزيد على 14 ألفا و500 متر مربع.
وتمتد الفترة الزمنية التى تنتمى إليها هذه الآثار من القرن الرابع، إلى القرن التاسع الميلادى التى تمتد من الحقبة الرومانية حتى العصر الإسلامى العباسى، كذلك يعتبر الموقع الأقدم على مستوى الأرض المقدسة، إذ أسس الدير القديس هيلاريون الذى يعتبر أبا الرهبنة فى فلسطين.
واكتشف الإسرائيليون الموقع عام 1993م بالصدفة وحولوه إلى منطقة عسكرية. وفى عام 1994 مع قدوم السلطة الفلسطينية إلى غزة بدأ العمل مع خبراء فرنسيين فى الموقع، واكتشوا بالموقع بقايا تابوت القديس هيلاريون وحوض تعميد ولوحات فسيفسائية. وبحسب المؤرخ الفلسطينى الدكتور ناصر اليافاوى فإن إسرائيل سرقت الكثير من آثار الدير ونقلتها إلى متحف «بروك لوفير» فى مدينة تل أبيب.
وكل ما تبقى من الدير هى أعمدة أسطوانية من البازلت، وبقايا كنيسة ولوحات فنية مبنية من الفوسفات بقايا توابيت وبركة تعميد، وبركة أسماك مهجورة، وبقايا غرف فندقية كانت محط جنسيات مختلفة. ويقسم الدير لثلاثة أقسام قسم للعبادات وفندق وقسم الحمامات ويعود للقرن الرابع الميلادى
يحتوى الدير من الجهة الشمالية على مجموعة غرف كانت مخصصة لإيواء الطلاب والنزلاء الذين كانوا يقصدون هيلاريون لتعليمهم الدين المسيحى والدخول فيه، أما الجهة الجنوبية تحتوى على غرف بنيت أرضيتها بشكل كامل من الفسيفساء، وكانت مخصصة لاستقبال ضيوف القديس من طبقة رجال الدين والرهبان. وتحتوى الجهة الغربية منه على ساحة تدريس الطلاب، وكانت تتسع لـ400 طالب، وتحتوى أيضا على مقعد كبير مبني من الأحجار الجيرية ومخصص لجلوس المعلم. أما الجهة الشرقية منه فتحتوى على قاعة بنيت تحت الأرض على شكل صليب، كما يوجد فى الدير ثلاث حجرات كانت تستعمل كحمامات. وفى وسط الدير، كانت توجد غرفة مخصصة لصنع النبيذ، وبركة لتربية الأسماك.
كنيسة العائلة المقدسة
تعد كنيسة العائلة المقدسة هى الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة فى القطاع ولها مدرستان ابتدائية وثانوية، بالإضافة إلى بعض العيادات، ويذكر قصة تلك الكنيسة الموقع الرسمى لبطريركية الأتينية فى القدس حى يقول: إنه قد وصل الأب جان موريتان إلى غزة فى 1869م، وبدأ بتأسيس رعية للاتين فيها؛ فسكن الأب موريتان بيت طبيب نمساوى وأقام فيه الذبيحة الإلهية، كما احتفل الأب موريتان بعيد الفصح أيضا، وعمد ثلاثة أطفال. وفى عام 1870، أرسل البطريرك منصور براكو الأب جولى ليعتنى بالرعية الناشئة.
تم افتتاح الرعية رسميا بعد مرور الأب موريتان بعشر سنوات، على يد الكاهن النمساوى الأب جورج غات، الذى وصل إلى غزة عام 1879 برفقة الكاهن المارونى الأب نعمة الله ضومط، فاستأجرا بيتا عربيا لخمس سنوات. وقد بلغ عدد الكاثوليك فى ذلك الحين 30 مؤمنا.
فى عام 1881، أرسل الأب غات أول تقرير عن رعية اللاتين فى غزة إلى البطريرك، ذكر فيه أن عدد اللاتين فى ذلك الحين بلغ 71 شخصا، كما ذكر الأب غات أيضا مشاريعه المستقبلية ببناء كنيسة ومدرسة للأولاد وأخرى للبنات، وشراء قطعة أرض كى يقيم عليها مزارا لمرور العائلة المقدسة فى غزة أثناء طريقها إلى مصر. وافق البطريرك على المشاريع المقترحة، اشترى الأب غات ثلاثة بيوت قديمة ليبنى محلها كنيسة الرعية، إلا أن الحرب العالمية الأولى وضعت حدا لأحلامه.
شهدت حرب عام 1948 قدوم مئات المهجرين ومنهم عدد لا بأس به من الكاثوليك، فعاد الاهتمام ببناء كنيسة كبيرة، وقد بنى الكنيسة الأب حنا النمرى عام 1965م.
الكنيسة المعمدانية «الأسقفية»
هى الكنيسة البروتستانتية الوحيدة فى القطاع وتقع فى حى الزيتون، بجوار كنيسة بورفيروس والمستشفى المعمدانى التابع للكنيسة وتخدم 200 من المصلين، تأسست الكنيسة عام 1950م من قبل الراعى حنا مسعد، الكنيسة عبارة عن 6 طوابق، الطابقان الأول والثانى عبارة عن مكتبة عامة مخصصة وتقدم الكتب المسيحية وغير المسيحية، ويستخدم الطابق الرابع للتوعية، والطابق الخامس عبارة عن صالة للضيوف والاجتماعات، والطابق السادس قاعة عبادة.
وتعد المكتبة الواقعة فى الكنيسة هى الوحيدة والأولى من نوعها، حيث افتتحتها الكنيسة فى عام 2006م.
وتتبع مستشفى المعمدانى الكنيسة أيضا، ولكن المشفى قد أنشئ قبلها حيث تأسست فى عام 1882م، على يد جمعية الكنيسة الإرسالية التابعة لكنيسة إنجلترا، وتديره الكنيسة الأسقفية الأنجليكانية فى القدس.
وأطلق اسم المعمدانى على المستشفى فى الفترات الأولى من تأسيسه نسبة إلى جمعية الكنيسة الإرسالية التابعة لكنيسة إنجلترا إلا أن ذلك الاسم تغير كثيرا بمرور الوقت ليصبح فى الأخير يحمل اسم المستشفى الأهلى العربى المعمدانى فى غزة.
استمر المستشفى فى تقديم خدماته العلاجية تابعا للكنيسة الإنجليزية حتى أسندت إدارته فيما بعد إلى المذهب المعمدانى الجنوبى كبعثة طبية وذلك بين عامى 1954 و1982، ليعود المستشفى بعد عدد من السنوات لسابق عهده تابعا لإدارة الكنيسة الأنجليكانية فى الثمانينيات.
والجدير بالذكر، أن تلك الكنيسة قد تعرضت للقصف فى يوم 17 أكتوبر الجارى، وأسفرت تلك الضربة الغاشمة على وقوع مئات الشهداء والجرحى، ولاقى ذلك إدانات دولية واسعة واصفينها بجريمة حرب.