«لم يعد هُناك شبر واحد آمن في غزة؛ فأينما نُولي وجوهنا تمطرنا السماء بالفيسفور وتشتعل الأرض بالنيران والمُتفجرات وتَخِرُ البنايات العليات هدا فوق رؤوس قاطنيها جراء صاروخ غاشم لا يُفرق بين عليل وسليم ولا حتى أعزل ومُسلح؛ حتى باتت الأرض قطعة من نار لا سُمع فوقها سوى أزيز الطائرات وضجيج المتفجرات ولا نرى غير الأطلال الغارٍقة بالدماء».. لم تكن تلك الكلمات ضمن سيناريو لفيلم من خيال مُؤلف يروي فيه عن أهوال يوم القيامة؛ ولا حتى فكرة لإطروحة خيالية عن أحداث آخر الزمان؛ بل إنه حديثٌ لسيدة فلسطينية من بين آلاف السيدات القابضات على جمر قصف الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.
بنبرة حزنٍ يملؤها السخط؛ تحكي «أم جمال» لـ «البوابة نيوز» في مقطع مُسجل رحلة التهجير والترهيب القسري المُتتالية التي يُمارسها الاحتلال الإسرائيلي ضد الأهالي في قطاع غزة؛ كعقابٍ جماعي لعمليات طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر، قائلًا: "تعبنا كتير يا بني وطفح الكيل بنا».
«كُنا في بيتنا والقصف فوقنا.. خِفت على نفسي وأبنائي الـ 6 من القصف الذي لا يرحم أحدًا؛ فتوجهت إلى حماتي للإقامة معها؛ ولكن كانت المأساة فلقيتها هي الأخرى تُلملم أغراضها للنزوح إلى دير البلح.. لم يعد أمامنا إلا النزوح سويًا.. ولكن حتى النزوح إلى دير البلح رفض أن يقبلنا بعد أن باتت دير البلح كُتلة من جهنم».
تكمل الأم الفلسطينية التي هجرت لأكثر من 5 مرات مسيرة المأساة والنزوح بين قصف وقنص الاحتلال؛ قائلة: «تركنا دير البلح متوجهين إلى غزة عند بيت أهالي؛ إلا أن البيت الذي كنا نأمل أن يأوينا بات كومة من الأطلال؛ فنزحنا مجددًا نحو محيط مستشفى الشفاء في الرملة بوسط غزة؛ ولكن هُناك كانت مأساة النازحين بالجُملة لا يتخيلها عقل فالآلاف فوق بعضهم البعض في الشوارع والطرقات دون ماء ولا دواء ولاطعام ولاكهرباء؛ ولكن الشيء الوحيد الذي يتوفر في مستشفى الشفاء هو الشهداء والحرجى والمصابين».
اقرأ أيضًا: خاص.. «تخرجت في طب عين شمس».. من هي صاحبة رسالة الاستغاثة من تحت الركام في غزة؟
وتُضيف لـ «البوابة نيوز» كل الأشياء كانت مُعدمة في مستشفى الشفاء إلا الأمراض والدماء كانت بكثرة دون عدد؛ لم يكن أمامنا سوى النزح على أحد أرصفة مستشفى الشفاء فهنا أكثر الأماكن أمنًا من جهنم قصف الاحتلال؛ ولكن بعد 3 أيام فقط من النوم في الشفاء أصيب أحد أبنائي بالـ «الجرب» بعد أسبوعين من بدء الحرب فعلى مدار الـ 14 يومًا لم يلامس الماء جسد أحدٍ منا؛ بالإضافة إلى الأمراض المنتشرة في المستشفى جراء الدماء والإصابات في ظل انعدام تام للأدوية والمنظفات.
وتسرد قائلة: المرض الجلدي الذي أصاب أحد أبنائي دفعني للعودة مرة أخرى لشقتنا؛ خوفًا على بقية أبنائي أصغرهم سنتين ونصف؛ ولكن الاحتلال رفض عودتنا لشقتنا قصفوها بالمتفجرات ونجونا بأعجوبة «الحمد لله»؛ ولكن إلى أين المفر؟ فالقصف فوقنا والموت حولنا والمرض يتعقبنا! ولم يصبح أمامنا سوى مواصلة رحلة النزوح القسري إلى مستشفى القدس التابعة للهلال الأحمر الفلسطيني بتل الهوا جنوبي غرب غزة.
3 أيام فقط مكثناها في مستشفى القدس؛ إلا ودكت الطائرات الحربية محيط المستشفى ليخرج الآلاف في الشوارع مُفجوعين بالصُراخ بعيدًا عن حمم النار التي لا ترحم كبيرًا كان أم صغيرًا " صرنا نجري في الشوارع ومُش عارفين وين نروح؟ كتير تعبنا كتير تعبنا.. لدرجة إن أعصابنا ما صارت تقدر تحمي أطفالنا".
كُنا مُهجرين والآن أصبحنا مُشردين نازحون نتكفف الناس الطعام والشراب من لإطعام الصغار أي شيء؛ "الناس صارت تعطف علينا اللي عنده حاجة صار يعطيها لجاره.. فأين العالم الظالم الذي يكيل بمكيالين؟ العيش في غزة أصبح جحيما ولا شيء ضل مكانه.. الحرب خرب كل العماير ودمر كُل شيء دمار شامل.
اقرأ أيضًا:
وتختتم السيدة التي تجرعت ويلات الحرب وآلام النزوح والفقد؛ كل عائلتي باتت بين التشرد والنزوح ومن نجا منهم من القصف عاش بإصابته؛ ابن اختي استشهد وشقيقه بُترت قدميه؛ وأخي أصيب في قدميه؛ وباقي العائلة باتت نازحة من مكانٍ للآخر أما منازلنا فباتت كومة من التراب والحجارة.. «الرحمة يا عالم.. بدنا حد ينقذنا بعرض الله.. لا نعرف ماذا نعمل ووين نروح؟ لا مكان واحد في غزة به أمان».