الخميس 02 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الأناركية.. والسلطة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يثار كثير من الجدل حول مفهوم «الأناركية Anarchism»، وهو جدل ناجم عن  سوء فهم، فالبعض يتصور - خطأً - أن «الأناركية» تهدف إلى خلق الفوضى والإرهاب، ويعتقدون أن وجود مجتمع بلا سلطة لا يعني سوى الفوضى الاجتماعية والعنف والعودة إلى قوانين الغاب. إن «الأناركية» أو اللاسلطوية هي باختصار نظرية سياسية تعارض جميع أشكال السلطة، وتدعو إلى التعاون الطوعي والارتباط الحر بين الأفراد، وهي مرادف حقيقي للاشتراكية، فالأناركية ليست إلا أحد تيارات الحركة الاشتراكية، إنها تهدف أولًا إلى إنهاء استغلال الإنسان للإنسان.

يظن البعض أن الأناركيين حالمون مهووسون بالمبادىء المجردة، ولكن الأناركيين هم في الحقيقة يدركون جيدًا أنه لا يمكن الوصول إلى مجتمع مثالي إلا عبر سلسلة طويلة من الصراع مع القوى التي تريد تأييد الأوضاع السلطوية، ويعتقدون أنهم في نضال من أجل محاربة الظلم السياسي والقمع الفكري والاستغلال الاقتصادي، وتعزيز الميول التحررية لدى الأفراد والمجتمعات.

يُعَد مصطلح «السلطة» مصطلحًا غامضًا وملتبسًا، وهو من أكثر المصطلحات التي حظيت  بتعريفات مختلفة بل ومتضادة. إن «السلطة» بمعناها الواسع، هي شكل من اشكال «القوة»، فهي الوسيلة التي من خلالها يستطيع شخص ما أن يؤثر على سلوك شخص آخر، إلا أن «القوة» تتميز عن السلطة، بسبب الوسائل المتباينة التي من خلالها يتحقق الإذعان أو الطاعة، فبينما يمكن تعريفها على أنها القدرة على التأثير على سلوك الآخرين، فإن السلطة يمكن فهمها بوصفها امتلاك الحق في القيام بذلك. إن القوة تحقق الإذعان من خلال القدرة على الإقناع، أو الضغط، أو التهديد،أو الإكراه، أو العنف، أما السلطة فهي تعتمد على «الحق في الحكم»، ويحدث الإذعان من خلال التزام أخلاقي ومعنوي من قِبَل المحكوم تجاه السلطة الحاكمة.

ربما تكون الحكومات هي المثال الأكثر وضوحًا فى دمج السلطة والقوة، بما أنها تملك بشكل عام احتكارًا للاستخدام المشروع للقوة المادية لإجبار المرؤوسين على الطاعة والولاء، باستخدام أدواتها القسرية، كالجيش والشرطة، اللذان يعملان كامتداد لسلطة الدولة ويشاركانها في شرعيتها. وفي كل الأحوال فإن السلطة هى علاقة قائمة بين طرفين، الآمر والمأمور، الأعلى والأدنى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الحق الطبيعى كالحرية والحياة والمساواة يُعَد أساسًا للوجود الإنساني، ومن ثمّ فإن الحقوق الطبيعية للإنسان سابقة على مدنية القانون والسياسة، هى حقوق لا يمنحها المجتمع المتمدن، بل واجبه حمايتها وتعزيزها، لذلك تعارض الأناركية العلاقات السلطوية، فهى علاقات غير متكافئة بين طرفين من حيث القوة (المتسلط والمتسلط عليه)، التي تسلب الحق الطبيعي للفرد (المقهور) في تحقيق استقلاليته، وفى تقرير مصيره بنفسه.

وبما أن السلطة لا يمكن أن تعبِّر إلا عن مصالحها، لذلك يبدو أننا أمام معضلة بين استقلالية الفرد وسلطة الدولة، ولقد رأى المفكر الأناركي رودولف روكر أن «الحرية بالنسبة للأناركي، ليست مصطلحًا مجردًا ولكنها فرصة حيوية وملموسة، تُتيح للفرد أن يصل إلى بلوغ أكمل لتطوير جميع قدراته وإمكانياته وملكاته التي وهبتها له الطبيعة، وتحويل ذلك كله إلى رصيد اجتماعي، وكلما أفلت هذا النمو الطبيعى للفرد من الوصاية الدينية والسياسية، ازداد انسجام الشخصية الإنسانية، وتنامت وتطورت حتى تصبح مقياس الثقافة العقلية للمجتمع الذى نمت فيه».

دعت «الأناركية» إلى استقلال الفكر وتحرره من أغلال المؤسسات الدينية وقيودها، كما نادت بضرورة إعمال العقل وتحريره من التبعيات والموروثات التي تكبل العقول وتطمسها، ومع هذا فإن «الأناركية» لا تعادى حرية الاعتقاد، ولا تقيم حَجْرًا على حرية ممارسة الشعائر الدينية، أى إنها لن تعادى الدين ذاته، وأيضًا لا تعترف «الأناركية» بالهويات العرقية والثقافية والقومية التى تكتسب وضعها وفقًا لمبدأ الهوية الجماعية القائمة على خصائص تشوبها نكهة السلطة القمعية، والتي تفرض على الفرد قسرًا. ولقد رفض التيار الأناركي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ونظر إليها بوصفها ملكية غير مشروعة، تقوم على أساس سيطرة مدعومة بالسلطة، ويرى «ببير جوزيف برودون» ثانى رواد الفكر الأناركي أن «الملكية مستحيلة جسديًا ورياضيًا، الملكية مستحيلة، لأنها تتطلب شيئًا مقابل لا شيء، الملكية مستحيلة لأن تكلفة الإنتاج أينما وُجِدَت أكثر مما تستحق، الملكية مستحيلة، لأن الإنتاج برأس مال معين يتناسب مع العمل وليس الملكية».

تؤكد «الأناركية» أن المساواة في الظروف، والمساواة في تملك وسائل الإنتاج وتكافؤ الفرص؛ من شأنها الحد من طغيان أي استبداد محتمل في مجتمع السوق الحر، إن الفرق بين السوق الحر ورأسمالية الدولة، هو الفرق بين التبادل الطوعي السلمي والمصادرة العنيفة، وفي الحقيقة تنظر «الأناركية» إلى «الراسمالية» بوصفها نظامًا مرفوضًا لأنه يمنح أصحاب رؤوس المال الحرية المطلقة فى قهر البروليتاريا واستعبادهم، ولا يمكن للرأسمالية أن تستمر إلا بمساندة سلطة الدولة، لذلك ترفض «الأناركية الأخلاقية» بشدة الاعتراف «بالأناركية الرأسمالية»، بوصفها شكلًا من أشكالها المختلفة. لقد اعتبرت الأناركية الرأسمالية مصطلحًا يعادل مصطلح (الربا) ولها ثلاثة أشكال: الفائدة على المال (الرأسمالية المالية)، إيجار الأرض والمنازل (الرأسمالية التجارية)، والربح من التبادل والتداول فى السوق (الرأسمالية الصناعية)، أما بخلاف ذلك فإنهم يميلون إلى المنافسة الحرة ودعم التجارة الحرة ويهدفون إلى استبدال العمل المأجور باتحادات عمالية، فلا يمكن أن تتحقق الملكية إلا من خلال العمل، ومن ثمّ للإنسان الحق في أن يملك ويبادل ويتاجر بالمنتج الذى صنعه من الأشياء المادية الموجودة في الطبيعة من أجل الحفاظ على بقائه.