آه يا سيدى الذى جعل الليل نهارا
والأرض كالمهرجان
ارمِ نظارتيك ما أنت أعمى
بل نحن جُوقة العميان (نزار قباني)
إذا كانت حرب أكتوبر 1973 بمثابة عبور عسكرى وسياسى واقتصادى واجتماعى مهم على كافة الأصعدة، فإن إنتاج طه حسين يعد بمثابة عبور ثقافى واجتماعى للعقل المصرى والعربي. إن طه حسين - الذى وافته المنية فى شهر النصر من العام نفسه، وتحديداً فى الثامن والعشرين من شهر أكتوبر عام 1973- يعد نموذجاً فريداً للمثقف العربى الواعى بقضايا مجتمعه، والحريص على تقديم نموذج مغاير للمثقف الذى يخلق لنفسه مسارا جديدا يجسد قيمه وطموحاته وآماله ورؤاه وأفكاره. مسار لا يلزم نفسه فيه بالسير بحسب السائد والمتعارف عليه، وإنما ينطلق فيه من التمرد على ما نعتبره مسلمات، إذ يضعها موضع المساءلة النقدية والعقلية والفكرية، ذلك للحد الذى يجعلنا نقول- باطمئنان- إن طه حسين من قلائل، فى تاريخ ثقافتنا العربية، استطاعوا أن يقدموا مدرسة فكرية ونقدية وعلمية. هذه المدرسة التى نستطيع تلمس امتداداتها وتأثيراتها فى الأجيال اللاحقة، حتى يومنا هذا. مدرسة بدأت به تلميذا لعدد من المستشرقين الذين اهتموا بدراسة الأدب العربي، والثقافة العربية، ثم صار هو أستاذا كبيرا، له تلامذته ومريدوه من كافة أنحاء الدول العربية. أستاذ رفع الراية عنه بعده أساتذة عظام، سهير القلماوى وعبد العزيز الأهوانى وشكرى عياد ويوسف خليف والنعمان القاضى وشوقى ضيف، ثم جابر عصفور وأحمد مرسى وأحمد شمس الدين الحجاجى وألفت الروبى وسيد البحراوى وغيرهم. إن تأثير طه حسين لم ينحصر داخل أسوار الجامعة، بل اتسع ليشمل ما هو خارج الجامعة. لقد كان التأثير الأكبر من خلال كتابه "الشعر الجاهلي"، الصادر عام 1926، بعد أن أملاه عام 1925. هذا الكتاب الذى صدر فى فترة تاريخية مهمة، حيث كانت تسود حالة من الركود الثقافي، فى ظل حالة الغليان السياسى التى كانت تسود المنطقة العربية، عقب الحرب العالمية الأولى 1914، ثم ثورة 1919، ثم دستور 1923. فى ظل هذه الحالة السياسية يظهر طه حسين، الذى يحرك المياه الثقافية الراكدة، فيشغل كتابه العالم العربي، بل العالم أجمع، بين مؤيد ومعارض، ومدافع ومهاجم. ويترتب- على ذلك- عدد هائل من الدراسات والمؤلفات النقدية والفكرية، ممن أثار حفيظتهم كتاب طه حسين. لا أريد أن أناقش أفكار طه حسين فى كتابه، التى قد نتفق معها او مع بعضها، أو نختلف معها كلياً أو مع بغضها، ولكن ما يهمنى التأكيد عليه هو مدى تأثير هذا الكتاب فى تحريك الحياة الثقافية والفكرية والنقدية التى كانت ساكنة سكوناً يهدد مستقبل هذه الأمة. لقد أحدث هذا الكتاب انفجاراً فكرياً وثقافياً، فجرت فى البحر الذى كاد أن يجف، المياه من جديد، وعادت الثنائيات الفكرية، وراح أنصار كل فريق يقرأون ويبحثون وينقبون، واستيقظ البحث العلمى من سباته، وضج الوسط الثقافى بالمعارك الفكرية ذات البعد الإيجابي. ولعل خير دليل على ما أقوله، أن نتصور الحياة الثقافية والفكرية المصرية والعربية دون أن يصدر كتاب "الشعر الجاهلي". إن الحديث عن طه حسين، الناقد والأديب والإنسان، والمتمرد حتى على ما نعتقد أنه إعاقة، تعوقه عن ممارسة حياته كسائر البشر، حديث مثير لكل من يرغب فى الكتابة عنه، ونموذج ملهم لكل من يرغب أن يتعلم معانى التحدى والإرادة والعزيمة، للدرجة التى تجعلنا نؤكد أن طه حسين لم يكن فاقدا للبصر أو البصيرة، فقد تجاوزت بصيرته وعبرت حدود زمانه ومكانه. وإذا كنت قد بدأت حديثى بجزء من رثاء الشاعر السورى نزار قباني، وهو رثاء من مئات قصائ الرثاء لشعراء آخرين كبار، فإننى لا أجد أفضل من قول نزار قبانى عنه (ولنتحمل صعوبة الوصف والعهدة على الشاعر) لأختم به كلامي:
أيها الأزهرى يا سارقَ النارِ
ويا كاسراً حدودَ الثواني
عُدْ إلينا فإن عصرَك عصرٌ
ذهبى ونحن عصرٌ ثاني
سقطَ الفكرُ فى النفاق السياسى
وصار الأديبُ كالبهلوانِ
عُدْ إلينا يا سيدى عُدْ إلينا
وانتشلْنا من قبضةِ الطوفانِ
* أستاذ الأدب الشعبى - كلية الآداب، جامعة القاهرة