أؤمن دائمًا بأن هناك بعض المشاكل تحتاج لأن تتفاقم حتى نتمكن من حلها، ذلك لأن الحديث عن حلول في بدايات المشكلة مع عدم امتلاك القدرة على حلها من الأساس يمثل نوعًا من ضرب الرؤوس في الجدران بلا طائل يمكن تحقيقه.. وعلى ما يبدو أن المشكلة تفاقمت إلى حد كبير.. ووصل وجيبها مداه، حتى ظهر ما في باطنها.
(1)
فمع انطلاق عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها "المقاومة الفلسطينية" على مستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر، ومع تطورات المشهد السياسي والعسكري تجاه الناحية الشرقية للحدود المصرية في قطاع غزة، اتسعت دائرة العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد أبناء الشعب الفلسطيني في القطاع، وبرزت الحاجة الملحة لإعلان المخطط الإسرائيلي لتوطين أهالي القطاع في سيناء، وهو مخطط لم يكن جديدًا على أسماعنا نحن المصريين.. ونعرف جيدًا أننا الأعداء الاستراتيجيين لإسرائيل، ونعلم أيضًا أن المقصود من كل تلك الممارسات العنصرية لسلطات الاحتلال الإسرائيلي توريط مصر في أزمات أكبر من أن تحتملها، وأن تنسى القضية الفلسطينية كما نسيها آخرون من أبناء جلدتنا.
(2)
لكن دعونا ننظر إلى القضية من منظور آخر.. منظور يعود بنا إلى أن نتمثل التجربة المصرية في درء الاحتلال عن الجغرافيا المصرية، فمنذ قديم الأزل وتتعرض مصر لمثل ما تعرضت له فلسطين.. احتلال يعقبه احتلال..وظلمات كانت بعضها فوق بعض منذ عصر الأسرات الفرعونية وهجمات الهكسوس على مصر، ولجوء مصر لتوحيد جبهتها الداخلية لمواجهتهم، وهو نفس النهج الذي سارت عليه مصر في سلسلة الاحتلال اللاحق، فلم تمكث الحملة الفرنسية كثيرًا أمام رغبة المصريين في طردها ولفظها شعبنا بكل ما أتت به. كما لم يستطع الاحتلال البريطاني أن تقوى عزيمته أمام الرغبة الجامحة في طرده أشد طرده. وأمام إرادة الشعب المصري "الموحد" لم يستطع العدوان الثلاثي أن يستمر في مصر، وفشل الاحتلال الإسرائيلي لاحقًا في أن يوطد أركانه على أرض مصر منذ بدايته عام 1967 وحتى جلاء كامل القوات الإسرائيلية عن مصر بعد المفاوضات التي تلت حرب أكتوبر 1973. وخلال كل تلك الفترات لم نصيح بأعلى صوتنا ونطلب دعم العرب، بل كانت صيحاتنا إلى أنفسنا، إلى إيقاظ الرغبة في الموت من أجل استعادة الأرض مهما كان الثمن.
(3)
لكن الأزمة في فلسطين تكمن في أن الفلسطينيين اعترفوا بشرعية الاحتلال قبل أن يعترف الاحتلال نفسه بشرعية دولة فلسطين.. لكن هذا لا يهم.. دعونا نتجاوز هذا الواقع إلى واقع آخر. فبيت القصيد هنا بالنسبة لي يكمن في ضرورة إيجاد أرضية مشتركة يمكن لأبناء الشعب الفلسطيني أن يقفوا عليها لكي ينطلقوا باتجاه هدفهم المتمثل في طرد الاحتلال أو حتى تقليص جغرافيته. وعليه، فلا يجوز أن يعيش الشعب الفلسطيني "شعبين" وتحت "حكومتين" يتراشقان في أوقات السلم، ولا يعلنان توحدهما معًا حتى في أوقات الحرب.
(4)
إنني أثق في أن هناك لحظات لا يجوز فيها جلد الذات بقدر ضرورة النظر إلى معالجة الوضع الراهن، فترميم البيت يبدأ من اعتراف من يعيش فيه بأهمية ترميمه لكي يتماسك أمام عوامل الزمن، وإلا ستظل مأساة استمرار العيش في بيت متصدع أقصى طموحنا وأمانينا، بصرف النظر عن المرحلة التالية والتي تتمثل في توحيد الجبهة الداخلية لحل مشكلة المشاكل و"قضية القضايا". وبدلًا من أن ننتظر القيامة حتى نخبر الله بكل شئ أو نصفع خدودنا عند حلول المصائب، يجب تضميد الجراح بعد المعركة الحالية والترتيب لصياغة مرحلة جديدة من التوافق بين أبناء الشعب الفلسطيني وتشكيل جبهة موحدة لصياغة مرحلة جديدة من عمر القضية الفلسطينية.. مرحلة يتمسكون فيها بالتوصل إلى إقامة دولتهم مهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات، بدون انتظار الدعم العربي أو التضامن الدولي أو حتى رصاصة الرحمة من العدو.
(5)
إلى الأشقاء في فلسطين.. وحدوا جبهتكم الداخلية وكثفوا جهدكم تجاه إزاحة الاحتلال أو الاعتراف به إن أردتم.. حددوا موقفكم من حدود دولتكم أولًا.. واتفقوا على ضوابط يمكن أن تكون أرضية مشتركة بين من يحكم من قطاع غزة ومن يحكم من الضفة الغربية في سياق المواجهة، أعيدوا فتح ملف "المصالحة الفلسطينية"، ذلك الملف الذي قال لي أحد الشخصيات الفلسطينية البارزة يومًا ما أنه "ملف حساس لايجوز الحديث فيه"، وقتها لن نستجدي أحدًا لاقتناص الحق، خاصة وأنه بات واضحًا للأعمى أن المجتمع الدولي لم يعد يعترف بالضعيف والمستجدي للحق، وبات منطق القوة هو الغالب، حتى أصبحت إسرائيل تتعامل بمنطق أنها لا تُسأل عما تفعل وهم يسألون.