في حوار خاص مع جريدة البوابة، يتحدث الشيخ أيمن حمدي الأكبري، شيخ الطريقة الأكبرية الحاتمية، وأحد أهم المتخصصين في دراسة فكر محيي الدين بن عربي، عن صعوبة فهم مؤلفات الشيخ الأكبر، وتأثيره الكبير على التصوف الإسلامي.
ودرس الشيخ أيمن حمدي، المولود في القاهرة عام 1961، درس الشيخ الأكبري الفلسفة والتصوف على أيدي مشايخ وعلماء التصوف، كما شغل مناصب مختلفة في الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويسعى إلى إحياء طريقة الشيخ الأكبر ونشر تعاليمه في العالم المعاصر، وهو يعتقد أن التصوف يمكن أن يقدم حلولًا للتحديات التي يواجهها المجتمع الحديث، مثل العنف والتعصب.
ويرى الشيخ أيمن حمدي أن صعوبة فهم مؤلفات بن عربي ترجع إلى عدة أسباب، منها: مرجعيته المعرفية الواسعة، واستخدامه للغة الرمز والأسطورة، واعتماده على التجربة الروحية في فهم الكون والوجود.. وإلى نص الحوار
- لماذا يُعتبر محيي الدين بن عربي صعبًا في فهم كتبه وفكره؟
بالفعل، مشهور أن الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي صعب، حتى نهى مشايخ الصوفية المبتدئين عن مطالعة كتبه، بل نهوا عن قراءة كتبه إلا بإذن شيخ كبير، والمعنى أن الشيخ الأكبر ابن عربي يستخدم لغة رمزية واصطلاحية صوفية، وأن أفكاره تعتمد على التجربة الروحية. ولذلك، كان متوقعًا أن لا يفهم العامة كتبه.
ولكن، لا يعني ذلك أنه صعب على الجميع. فإذا كان القارئ لديه خلفية في التصوف، فسيتمكن من فهم أفكار ابن عربي بشكل أفضل.. وإذا كان القارئ لديه شغف بالبحث في أسرار الكون والوجود، فسيتمكن من فهم أفكار ابن عربي أيضًا، حتى لو لم يكن لديه خلفية في التصوف.
- ما هو معنى الإذن الذي يعطيه المشايخ لتلاميذهم بقراءة مؤلفات بن عربي؟
الإذن الذي يعطيه الشيخ العارف لتلميذه يسمح له بالاطلاع على مؤلفات الشيخ الأكبر أو يمنعه، وهذا مهم لعدة أسباب، منها: لكي يتأكد الشيخ من أن التلميذ لديه الاستعداد العقلي والنفسي لفهم هذه المؤلفات، ومن ثم يوجهه في فهم هذه المؤلفات التي تتناول موضوعات فلسفية وتصوفية عميقة، ويساعده على تفسير الاستعارات والرموز التي يستخدمها الشيخ الأكبر، كي يحميه من الوقوع في أخطاء أو فهم خاطئ لهذه المؤلفات.
وهذا الأمر يعكس أهمية مؤلفات محي الدين بن عربي، والتي لا يمكن فهمها إلا من قبل من يمتلك الاستعداد العقلي والنفسي والتوجيه الصحيح، لأن فهمها يتطلب من القارئ بذل جهد كبير.
- وفي رأيك إلى أي مدى تصل هذه الصعوبة؟
في الحقيقة لا يوجد شيء صعب وأخر سهل، فعلى سبيل المثال ان كانت معرفتي بالكيمياء لا تتعدى بعض الأوراق التي مررت عليها بحكم الدراسة، هي بالكاد تسمح للدراس أن يتجاوز بها امتحان أخر العام ولكنها ليست كافية لاستيعاب مؤلفات العلماء الكبار ف الكيمياء.
- هل تقصد أنه بسبب هذه الصعوبة أطلق عليه الشيخ الأكبر؟
هنا نقف عند شهرة سيدي محي الدين بـ "الشيخ الأكبر"، فمنذ 800 سنة لا يوجد شيخ أطلق عليه الشيخ الأكبر.. "مفيش حد اتقال عليه الشيخ الأكبر غيره"، فمن البديهي نعلم أن من يطلق عليه "الشيخ الأكبر" يكن هو "شيخ الشيوخ"، ومن ثم كلامه ومؤلفاته موجهه في المقام الأول إلى الشيوخ والعلماء والأساتذة وليس المبتدئين والتلاميذ.
والدليل أن الكتب لم تكن تنتشر هذا الانتشار خاصة الكتب الكبيرة مثل "الفتوحات المكية" - الذي يقترب من 4 آلاف صفحة – لولا اهتمام الشيوخ الأكابر والعلماء الكبار وتكليفهم بنسخها لتحصيل ما فيها من علوم وكنوز، ما بقي هذا التراث العظيم.
- ألا من طريقة تبين ولو جزءًا من سر هذه الخصوصية التي ترتبت عليها صعوبة فهم واستيعاب مؤلفات "ابن عربي" بالنسبة للعوام؟
بداية من أسباب صعوبة كتب سيدي "ابن عربي" للتسليم بها، ولنقل أولها وأهمها هو (الذوق)، بمعنى أننا بصدد علم ذوقي يكتسب بالخبرة و"الخبرة ذوق"، مثلا للتبسيط نجد الطاهي أي الطباخ يدخل على مساعديه يعرف أنهم لم يضعوا ملح في اللحم، دون أن يتذوق اللحم حتى يعرف ذلك، بينما لديه تلك الخبرة التي مكنته من معرفة طعم اللحم بحاسة الشم دون عناء التذوق باللسان الذي يعد الأصل في هذه الخاصية، ونقيس على ذلك ما تريد.
وبما أن هذا العلم ذوقي فلابد من أن يقال بصورة مكثفة، من حيث أنه لم يخاطب به الفكر فقط بل يخاطب الذوق أولًا.
والفارق هنا أن مخاطبة الفكر تحتاج إلى تفصيل الموضوعات بخلاف مخاطبة الذوق تأتي بكلمة أو بنظرة أو اشارة يفهمها اللبيب.
وتبسيطًا أكثر، يمكن أن تقول لأحدهم: صباح الخير.. وبحسب كيفية قولها واستقبالها قد يأتي الرد جيدًا وقد يأتي سيئًا، إذن هي مسألة إحساس، والإحساس ذوق.
وبالتالي كان كلام سيدي "ابن عربي" بالذوق أي يكون اللفظ فيه ظرف حامل للمعنى، والسبب وراء ذلك أنه يتكلم في حقائق وأسرار من الصعب الوصول إليها لأنها لها آثار كبيرة لا يعلم حجمها وقوتها إلا الأكابر.. وهي أسرار لا يجب أن يعلمها الأشرار.
كما أن سيدي "ابن عربي" يكتب هذا الكلام بلغة لا يستطيع أن يخترقها كل أحد، وهذا مصدر آخر من مصادر الصعوبة التي يتميز بها تراثه ومؤلفاته وفكره.
- من واقع سؤالنا الأول وكذلك من حيث ما ذكرتم عن صعوبة ونخبوية "ابن عربي" إلا أن الجميع يشهد له بالشهرة الفائقة بين الخاصة والعامة؟
مصادر الصعوبة في فهم فكر محي الدين بن عربي متعددة، منها الموضوع نفسه، ومنها مرجعيته المعرفية الواسعة، فقد عاش محي الدين في عدة بلدان، فنشأ في الأندلس، وكبر في المغرب، وكمل علمه في المشرق. وكان حريصًا على التعلم من كل مكان، حتى أنه سافر إلى بغداد ليأخذ العلم من مكين الترمزي، وهو إمام أهل بغداد. وكان يقول "قرأت الترمذي على مكين إمام الناس في بغداد"، وهو لا يزال يتعلم كان معروف أنه الشيخ الأكبر.
ولذهاب سيدي ابن عربي هنا للشيخ مكين ملمح يمكن أن يفيد، فعندما راح إليه ليقرأ عليه كتاب الترمذي بعد قرأته ما يقرب من 10 مرات قبل أن يذهب إليه، ولكنه ما زال يحصل العلم وله قول شهير: "حالي وحالك في الرواية واحد.. وما القصد إلا العلم واستعماله".. يعني كان يريد أن يرى الفرق بين استعمال العلم في المغرب وبينه في المشرق كي يوسع ذوقه، وهذه الأبيات كتبها لأخت الإمام مكين وكانت محدثة.
وكان محي الدين يهتم بالعلوم الباطنة، مثل الأسرار والحروف، وكان مطلعًا على علوم الحكمة اليونانية القديمة. فقد درس كتاب "سر الأسرار" لأرسطو، الذي يتحدث عن سياسة الملك. وقد تأثر محي الدين بهذا الكتاب، فقسم الإنسان إلى مملكة، وجعل الروح الملك، والعقل الوزير، والهوى أميرًا من الأمراء، والجوارح عساكر.
كما تأثر محي الدين بمدرسة التصوف الصوفية التي أسسها أبو مدين الغوث، والتي جمعت بين التصوف الإسلامي والفلسفة اليونانية، ونتيجة لهذه المرجعية المعرفية الواسعة، فإن لغة محي الدين غنية بالألفاظ والمفاهيم، مما قد يصعب فهمها على القارئ العادي.
وبالنسبة لغزارة إنتاج "بن عربي" هل تعد سببا لشهرته الواسعة وجذبه لمختلف الشرائح؟
كان لغزارة إنتاج بن عربي من الكتب والرسائل والشعر تأثير كبير على شهرته الواسعة. فلقد استطاع أن يخاطب شرائح المجتمع المختلفة من خلال أعماله، التي تتميز بالتنوع والغزارة.
وإلى جانب غزارة إنتاجه، فقد كان لمحتوى كتبه ورسائله العلمية وأفكاره الصوفية العميقة دور مهم في شهرته. فقد عالج في كتبه موضوعات متنوعة في الفلسفة والتصوف والأدب، وقدم أفكارًا إبداعية وثاقبة أثارت اهتمام العلماء والمفكرين في مختلف أنحاء العالم.
أما شعره، فقد تميز بأسلوبه الفريد وتعبيره الصادق عن مشاعره الروحية. وقد كان له تأثير كبير على الشعراء الصوفيين في العالم الإسلامي.
- هل الكتب المنسوبة إليه هي السبب وراء ميل البعض الى اتهامه بأمور معينة كالزندقة والالحاد والتكفير الى أخره؟
كلها اتهامات باطلة تنم عن جهل وسوء فهم وسريرة.. فقد وجدنا ان هذا يحدث أحيانًا من الناس التي تميل الى تكفيرالأخر لهم طبيعة خاصة بالأساس بجانب أنهم سمعوا مثلًا أن هناك علماء كفروه، ولكن أصحاب هذه العقلية التي تميل للتكفير لا يبحثون عن أصل هذا التكفير، فلو بحثوا لعرفوا يقينا ان كل من اتهم سيدي ابن عربي بباطل، كان عن جهل وكان عن سوء فهم وكان عن دسائس لا علاقة له بها.
على سبيل المثال من ضمن الفتاوي المشهورة في تكفيره فتوى ابن تيمية، أحدهم أرسل له ورقة يطلب منه الرد على ما جاء فيها، وبالتبعية رد عليها وقال من كتب هذا كافر، ولما تم بحث المسألة، وجدوا أن ابن تيميه رد على كلام تم تحريفه كلية، ولم يتأكد من أن هذا صحة نسبة هذا القول لابن عربي.
- هل تقصد قصة مقولة "العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف"؟
نعم.. هذا قول مدسوس عليه، بعدما رجعنا للمخطوطات وجدناه يقول "العبد حق والرب حق يا ليت شعري من المكلف" إذا الفتوى كلها كانت بناءًا على كلام خاطئ لم يقوله.
ودورنا كمعاصرين أن نعرف الناس بالشيخ محي الدين كرجل علم ترك لنا تراث عظيم علينا أن ننظر فيه ونأخد منه ما ينفعنا.
- ما هي أهم الأفكار والممارسات التي قدمها بن عربي والتي كان لها تأثير كبير على التصوف الإسلامي؟
يُعد محي الدين بن عربي من أهم المتصوفة في التاريخ الإسلامي. فقد كان له تأثير كبير على تطور التصوف، ويعتبره البعض مفصلًا بين التصوف القديم والتصوف الجديد.
كان التصوف القديم قائمًا على الزهد والورع والتنسك. وكان الصوفي يُنظر إليه على أنه شخص منفصل عن العالم، يسعى إلى الخلاص من الدنيا. أما محي الدين، فقد تميز بتصوف يرتبط فيه الصوفي بالوجود. فهو يرى أن الصوفي لا يكمل إلا بقدر انسجامه مع العالم.
وهذا التحول في التصوف ينبع من فهم محي الدين للقرآن. فقد كان يؤمن بأن الله تعالى قد خلق الكون على قانون واحد. وأن الإنسان جزء من هذا الكون، وعليه أن يتعرف على هذا القانون ليتمكن من الوصول إلى الله تعالى.
وقد استند محي الدين إلى آيتين في القرآن لتأكيد هذا التحول في التصوف. الآية الأولى هي قوله تعالى: "سنريهم آياتنا وفي الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق". فهذه الآية تشير إلى أن الله تعالى قد جعل آياته واضحة في كل مكان، في الكون وفي الإنسان.
والآية الثانية هي قوله تعالى: "فورب السموات والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون". فهذه الآية تشير إلى أهمية دراسة الإنسان للنطق، وكيف يحدث. وذلك لأن النطق هو أحد آيات الله تعالى في الكون.
- كيف يمكن توضيح هذا الربط الذي ربطه "بن عربي" أي الكون بالنطق؟
يعتقد محيي الدين بن عربي أن النطق هو مفتاح لفهم الكون. فهو يرى أن النطق يتكون من 28 حرفًا، وكل حرف يمثل مرتبة من مراتب الكون. فعندما ينطق الإنسان، فإنه يكشف عن أسرار الكون.
ولكي يفهم الإنسان النطق، يجب عليه أن يدرس كيف ينطق. وهذا يعني أن يدرس كيف ينتقل الهواء من الرئتين إلى اللسان، وكيف ينتج عن ذلك الأصوات. كما يجب عليه أن يدرس معنى كل حرف، وكيف يرتبط بالكون.
ويرى بن عربي أن النطق هو تعبير عن الإبداع البشري. فالإنسان هو مخلوق مبدع، يمتلك القدرة على إنشاء أشياء جديدة. والنطق هو أحد أشكال هذا الإبداع، ويوصي بأن يمارس الإنسان التأمل في النطق ليساعده فهم نفسه والكون من حوله.
وأن التصوف هو عملية تعليمية وتربوية، ولذلك يجب أن يتضمن أستاذًا وتلميذًا ومنهجًا ومقررًا. إذا لم تتوافر هذه العناصر، فإن العملية التعليمية ستكون ناقصة.
- وما رأيك في ضرورة أن يكون لكل أستاذ أو شيخ منهج خاص؟
يوجد خصوصية في المنهج، وليس منهجًا خاصًا. فالمنهج التربوي واحد عند الناس باختلاف الديانات، فلا توجد تربية بدون أخلاق.
بجانب أن التصوف هو نزعة إنسانية بلا شك، ولكن الخصوصية هي أن يكون تصوفًا إسلاميًا. وهذا يعني أن المنهج يجب أن ينضبط على الكتاب والسنة، والتصوف الإسلامي لا يخرج عن ثلاثة طرق رئيسية:
المدرسة الدلالية: وهي المدرسة التي يمثلها الحلاج. ويتميز هذه المدرسة بالدلال أو الرمز، ولذلك قد يفهم الناس كلام الحلاج على أنه شطح أو جنون. ولكن هذا ليس صحيحًا، فالدلال هو أحد مظاهر المحبة، وهي مصدر التصوف الإسلامي.
مدرسة الجنيد: وهي المدرسة التي يمثلها الجنيد البغدادي. ويتميز هذه المدرسة بالجهاد والتقوى، ولذلك فهي أكثر تشددًا في الالتزام بالكتاب والسنة.
مدرسة محي الدين بن عربي: وهي المدرسة التي تعتمد على العلم والفهم، ولذلك فهي تتميز بالجمع بين الشرع والحب.
- هل تصوف محي الدين بن عربي تصوف فلسفي؟
تسمية تصوف محي الدين بن عربي بالتصوف الفلسفي أظنها غير دقيقة. وذلك لأن التصوف الإسلامي، الذي يمثله محي الدين، لا يعتمد على العقل في اكتشاف الحقائق، بل يعتمد على القلب. فالعقل البشري محدود، ولا يمكنه أن يدرك الحقائق العليا. أما القلب، فهو قادر على إدراك هذه الحقائق، لأنها تتجاوز العقل.
كما أن تصوف محي الدين يعتمد أيضًا على التسليم بالوحي النبوي. فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أخبرنا بوجود بعث بعد الموت، وحساب، وحياة أخرى.
وهذه الحقائق لا يمكن أن ندركها بالعقل وحده، بل نحتاج إلى الإيمان بها، ولذلك، فإن تصوف محي الدين هو تصوف حكمي، وليس تصوفًا فلسفيًا. فالحكم هو التسليم بالوحي النبوي، والأخذ به.
أما الفلسفة، فهي تعتمد على العقل البشري وحده، بينما تصوف محي الدين هو تصوف ذو طابع روحي عميق، لا يمكن فهمه إلا من خلال التسليم بالوحي النبوي، والإيمان بالله تعالى.