حرصت إسرائيل – منذ قيامها - على توفير الشعور بالأمن والسلام لمواطنيها؛ حتى أنها أطلقت على جيشها جيش «الدفاع» إيهامًا بأن المهمة الأولى والرئيسية لهذا الجيش هى حماية إسرائيل من أية أخطار محتملة. إن نظرية الأمن الإسرائيلي هى الركيزة الأساسية لقدوم أعداد هائلة من اليهود من كافة بقاع الأرض إلى فلسطين في ظل حماية مؤكدة لهم من جانب الجيش الإسرائيلي. هكذا نشأت إسرائيل وهكذا استمر بقاؤها، وجاء طوفان الأقصى ليعصف بهذا الأمن الهش مما شكلَّ خطرًا على استمرار وجود إسرائيل ذاتها؛ لأنه في غياب الأمن يرحل عدد كبير من سكان إسرائيل ويعودوا من حيث أتوا؛ وبخاصةٍ أن كثيرين منهم يحملون جنسية مزدوجة؛ أي يحملون جنسيات أخرى بجانب الجنسية الإسرائيلية، وفي حالة غياب الأمن والأمان لن يغامر عدد لا بأس به من سكان إسرائيل بالبقاء في مكان احتمال تعرضهم فيه للقتل وتدمير ممتلكاتهم احتمال له درجة عالية.
فَهَمَ قادة إسرائيل هذه المعادلة فهمًا صحيحًا منذ اللحظات الأولى لقيام دولة إسرائيل. والآن يدرك نتنياهو ومن معه معنى ومغزى ما ترتب على طوفان الأقصى من نتائج بددت شعور المواطن الإسرائيلي بالأمن والأمان. لذلك أقول وأكرر أن فكرة إلقاء قنبلة ذرية على قطاع غزة وردت على ذهن نتنياهو ومن معه، لكن العواقب الوخيمة التي من الممكن أن تنجم عن تنفيذ هذه الفكرة جعلتهم يحجمون عن تحقيقها؛ غير أن مجرمي الحرب الذين يجلسون على رأس السلطة في إسرائيل الآن استعاضوا عن استخدام القنبلة الذرية بصب حمم من الجحيم على كافة سكان غزة المدنيين الآمنين أطفالًا كانوا أو نساءً أو شيوخًا. كثافة النيران وحجم الدمار ومواصلة القذف بمختلف أنواع القذائف والصواريخ على قطاع غزة يكشف عن رغبة جامحة من جانب مجرمي الحرب في إسرائيل - وأعوانها في واشنطن وبعض العواصم الغربية - تستهدف محو قطاع غزة بقاطنيه من الوجود؛ في الوقت الذي يجلس فيه بعض الحكام في قصورهم الفخمة يشاهدون ما يحدث دون أن يحركوا ساكنًا؛ اكتفاءً بإصدار بضع كلمات هزيلة تكشف خضوعهم وخنوعهم للعم سام وربيبته إسرائيل.
يتوهم زعماء إسرائيل أنهم من خلال بوابة الجحيم التي فتحوها على مصراعيها؛ في كل مناطق قطاع غزة المأهولة بالسكان المدنيين؛ أنهم قادرون على بث الرعب والفزع في نفوس أهل غزة وسائر شعوب الدول العربية والإسلامية؛ بحيث لا يجرؤ كائن من كان في أية لحظة من اللحظات على خدش أمن إسرائيل وسلامة مواطنيها. إن هذا التصور يستند إلى وهم كبير لأن واقع الحال وحقائق التاريخ تؤكد أن كلما أمعنت إسرائيل في استخدام القوة المفرطة، ازدادت درجات الكراهية والبغضاء لها في نفوس كل مواطن فلسطيني أو عربي.
الدلائل على ذلك كثيرة وتفوق الحصر فعلى سبيل المثال أكاد أجزم بأن أبطال طوفان الأقصى الذين أذلوا الكبرياء الإسرائيلي هم أطفال الانتفاضات الفلسطينية الذين عانوا من قسوة الجيش الإسرائيلي وإفراطه في استخدام القوة ضد أطفال الانتفاضات الفلسطينية.
ولا شك أن ما قام به المجند المصري سليمان خاطر من قتل الإسرائيليين، وكذلك ما نجح فيه المجند محمد صلاح على الحدود المصرية ومطاردته لبعض الإسرائيليين وقتلهم، وحتى العمل المستهجن الذي قام به أحد أفراد الأمن بالإسكندرية من قتل اثنين من السائحين الإسرائليين مؤخرًا. كل هذه الوقائع وغيرها تكشف عن فشل إسرائيل في بث الخوف والفزع في قلوب الفلسطينين والعرب من خلال الاستخدام الوحشي للقوة، وأن ما تفعله على وجه الدقة هو زرع الكراهية والبغضاء لها ولكل ما هو إسرائيلي.
إسرائيل تحقق عكس ما تهدف إليه بهجومها اللإنساني على قطاع غزة.. إنني أكاد أرى مقاتلين أشداء يقتحمون القدس ويحررونها من الدنس الصهيوني، وأتطلع إلى ملامح هؤلاء المقاتلين المغاوير فأتبين أنها هى ذاتها ملامح صبية فلسطينيين يعيشون في هذه اللحظة تحت القصف الإسرائيلي على غزة، وملامح صبية عرب مصريين وغير مصريين يجلسون أمام شاشات التليفزيون يشاهدون بحسرة وألم ما يحدث في غزة. يتوهم قادة إسرائيل ومن يساندهم أن الأمن يصنعه منطق القوة لا منطق العدالة. إنهم يزرعون الشوك ولن يجنوا سوى الجراح.