تصاعد وتيرة التحذيرات الأمريكية على لسان وزيري الخارجية والدفاع يؤشر إلى أن ساعة الصفر للاقتحام البرى لقطاع غزة من قِبَل جيش الاحتلال الصهيونى باتت وشيكة.
لا أحد يتكلم عن تهدئة، أو حتى وقف مؤقت لإطلاق النار، الكل فى واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبى يريدون استمرار هذا العدوان غير الإنسانى على 2.5 مليون مواطن فى قطاع غزة.
صحيح نجحت قمة القاهرة للسلام فى التوصل إلى توافق دولى حول ضرورة إرسال المساعدات الإغاثية إلى المنكوبين فى غزة؛ لكن ممثلى دول الاتحاد الأوروبى وأعضاءه رفضوا إدانة جرائم الكيان الصهيونى ووصفوها بحقه المشروع فى الدفاع عن النفس، ورفضوا إطلاق مبادرة دولية لوقف الحرب وبدء عملية تفاوض تبدأ بالأسرى وتنتهى بإحياء عملية السلام.
الموقف المصرى جاء صارمًا وحاسمًا برفض تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأمن القومى لمصر، وهذا ما عكسه بيان رئاسة الجمهورية الذى أعقب أعمال القمة.
تدرك مصر أن استمرار هذه الحرب بضوء أخضر أمريكى ودعم أوروبى لن يفضى إلا إلى تنفيذ المخطط الصهيونى بتهجير غالبية سكان غزة ودفعهم نحو الحدود المصرية لذلك يشدد الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ بداية الأزمة على أن الدولة المصرية ستقف أمام هذا المخطط وستحول دون تنفيذه، ولا يكف عن مطالبة المجتمع الدولى بضرورة العمل على الوقف الفورى لهذه الحرب.
جيش الكيان الصهيونى لا يكف عن تحذير سكان شمال قطاع غزة ومطالبتهم بالانتقال إلى جنوب القطاع وإلا اعتبرهم جميعًا إرهابيين؛ وفى ذات الوقت لا يكف عن قصف جنوب غزة بمنازلهم والملاجئ التى تستضيف الهاربين بحياتهم وحياة أطفالهم من شمال القطاع.
الجيش الصهيونى يقول 2.5 مليون فلسطينى لا نجاة لكم إلا إذا عبرتم بوابة صلاح الدين نقطة الحدود فى رفح المصرية إلى شبه جزيرة سيناء.
تجاوزت الضغوط الغربية على مصر لتنفيذ هذا المخطط الأدوات السياسية والاقتصادية إلى الأداة العسكرية الغاشمة لاستهدافه العشوائى لكل الأهداف المدنية بما فى ذلك مقرات وكالة الأنروا للإغاثة التابعة للأمم المتحدة.
بات واضحًا أنهم يريدون مصر تحت ضغط إنسانى وأخلاقى بحشر مئات الآلاف فى نقطة ضيقة أمام حدودها البرية وحينها سنسمع ألسنة أوروبا التى خرصت أمام جرائم الكيان الصهيونى تدين رفض مصر السماح لتلك الحشود المدنية العبور إلى أراضيها.
الغرب بزعامة واشنطن وأذنابها فى الاتحاد الأوروبى يؤكد أنه لا يريد اتساع رقعة هذه الحرب بإنذاراته المتكررة لإيران وتحذيرها من تحريك أذرعها فى المنطقة ضد المصالح الأمريكية والغربية؛ إلا أن هذا الغرب ليس لديه أى ضمانات لعدم اندلاع حرب إقليمية سوى البوارج الأمريكية والسفن الحربية البريطانية.
القذائف والشظايا الطائشة لأى معركة مهما كانت محدوديتها كفيلة بتحويلها إلى حرب كبرى تحرق الأخضر واليابس.
أغلقت مصر ونهائيًا هذا الحديث حول إمكانية توطين المهجرين من قطاع غزة فى سيناء، وأظن أن الهاجس الأكبر الآن ليس سيناريو التوطين بعد التهجير وإنما إندلاع حرب تعصف بكل فرصة للسلام نتيجة أفعال عسكرية يرتكبها جنود الاحتلال الصهيونى بشكل متكرر خطأ أو عمدًا.
هذا النوع من الحوادث قد يتكرر بعد بدء الاقتحام البرى لقطاع غزة فى سياق تصعيد الضغوط لتمرير مخطط التهجير ثم التوطين، خاصة وأن الرئيس الأمريكى جو بايدن تحدث عن ضرورة فتح ممرات آمنة لعبور المدنيين الفلسطنيين فى شمال ووسط قطاع غزة لتمكينهم من النزوح إلى مناطق الجنوب أثناء الاقتحام البرى وقد أعدت إدارته مشروع قرار لمجلس الأمن يعطى الكيان الصهيونى الحق فى مواصلة عدوانه ويشرعن جريمة التهجير القسرى لسكان قطاع غزة، وهو المشروع الذى لن يمر بسبب الفيتو الروسى والصينى المتوقع.
لقد بات من المؤكد أن حلفاء الكيان الصهيونى فى أوروبا وأمريكا لا يريدون سلامًا حقيقيًا أو استقرارًا راسخًا فى منطقة الشرق الأوسط؛ فحتى لو نجح جيش الاحتلال الصهيونى فى إبادة جميع فصائل المقاومة فى غزة إضافة إلى عشرات الآلاف من المدنيين، لن يستطيع دعاة السلام فى المنطقة بعد هذه الحرب كتابة ولو كلمة واحدة عن التعايش السلمى مع الكيان الصهيونى.
الموقف الأوروبى والأمريكى الداعم لجرائم الاحتلال رفع منسوب الكراهية لهذا الكيان وحلفائه ووصل به إلى الذروة، ولا أعتقد أن مواطنًا ينطق بالعربية سيقبل التعامل مع صهيونى فى أى مجال حتى إذا كانت بلده مرتبطة باتفاق سلام أو تطبيع.
منسوب الكراهية لن ينعكس فقط على النظرة إلى دولة الاحتلال وسكانها وإنما قد يهدد مع الوقت المصالح الأوروبية والأمريكية داخل عواصمهم فهم من يزودون حطب التطرف والتشدد بكل أنواعه السياسية والثقافية والدينية والقومية، وها هى المظاهرات الحاشدة التى انطلقت فى عواصم ومدن أوروبا وأمريكا لدعم فلسطين ورفض سياسات الحكومات الغربية المؤيدة لجرائم الصهيونية تنذر الغرب بمستقبل قلق ومتوتر فى عقر داره.
لا أرى فرصة جديدة للسلام بعد أن فقدت أمريكا وأوروبا مصداقيتها بانحيازهما الصارخ لقتل الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى داخل المستشفيات؛ وأتصور أن على القوى الإقليمية الرئيسة فى المنطقة أن تفعّل ما لديها من أوراق ضغط سياسية واقتصادية واجتماعية تتعلق بحجم الاستثمارات والبترول وملفات الهجرة غير الشرعية، وأن تعمل على إفساح المجال لدور صينى روسى أكبر بحيث يصبحان أكثر فاعلية وتأثيرًا فى قضية الصراع العربى الصهيونى ولضمان استقرار نسبى قد يصبح قريبًا حلمًا بعيد المنال.