السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى بأكملها تحكمها الولايات المتحدة.. والاقتصاد الغربى فى حالة حرجة
"إذا لم يتحرك أحد، فسوف تختفى أرمينيا»، هذا ما أقرته سفيرة أرمينيا لدى فرنسا السيدة هاسميك تولماجيان.. هى هنا تقول الحقيقة بلا تهويل!
أرمينيا هى صرخة موجهة إلى العالم ودعوة للعدالة والاحترام خاصة فى سياق العلاقات الدولية. لكن الكثيرين فى الغرب يميلون إلى النظر إلى مناطق أخرى فى العالم وإدارة ظهورهم لهذا البلد الذى يعيد الغربيين مع ذلك إلى المسئوليات التاريخية وإلى الدفاع عن قيمهم الخاصة كما يؤكد الصحفى والكاتب فريديريك بونس فى كتابه «هل يمكن أن تختفى أرمينيا؟ صراع منسى على أبواب أوروبا» ونشرته مؤخرًا دار ارتيج.
تعتبر أرمينيا مفترق طرق تاريخى وثقافى ودينى فى جنوب القوقاز، وهى نقطة التقاء بين أوروبا وآسيا نقطة للتبادل ولكن أيضًا وقبل كل شيء للمواجهة.
إن هذا البلد الصغير والذى تبلغ مساحته ٢٩٧٤٣ كيلومترًا مربعًا هو مجرد بقعة فى القوقاز دون أى عمق استراتيجى. ومن بين جيرانها الأربعة هناك دولتان تعاديانها بشدة تركيا وأذربيجان فى حين يسعى الغرب إلى التودد إليهما بنشاط.
إن المشروع التركى يثير القلق خاصة أنه تم التعبير عنه بشفافية كاملة وعلى أعلى المستويات ويهدف هذا المشروع إلى: إضعاف أرمينيا من أجل التصرف بشكل أفضل فى أجزاء كاملة من أراضيها تلبية لمصالحهم الاستراتيجية وخاصة فى حقول النفط والغاز.
كما أن الدعم الذى يقدمه أصدقاء أرمينيا القلائل يثير القلق بنفس القدر بالنسبة لمستقبل شعبها ذلك أن هذا الدعم لم يكن بدافع من الصداقة. وقد نأت حليفتها الطبيعية روسيا بنفسها وانشغلت بقضايا أخرى أكثر إلحاحًا، ومصالح حيوية أخرى: استمرار الحرب فى أوكرانيا، وضرورة الحفاظ على شراكتها الاستراتيجية مع تركيا، والانشغال بشأن أذربيجان الهامة لمواصلة تصدير روسيا للغاز والنفط.
كل شيء يظهر أن روسيا ليس لديها رغبة فى الانخراط فى القوقاز على الرغم من شراكتها مع أرمينيا فى إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعى (CSTO)، هذا التحالف العسكرى الذى ولد فى عام ٢٠٠٢ حول موسكو والذى ضم بعض الجمهوريات السوفيتية السابقة إلى جانب ذلك أرمينيا، بيلاروسيا، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان.
إن إيران هى الحليف المحتمل الآخر. لكن هذه الدولة منبوذة من قبل الدول وتخضع لعقوبات دولية منذ سنوات. إيران العدو المعلن للولايات المتحدة وإسرائيل أصبحت ضعيفة ولم يعد لديها مجال كبير للمناورة. ويقتصر دعمها لأرمينيا على ترك حدودها الشمالية مفتوحة، لضخ القليل من الأكسجين إلى الاقتصاد الأرمينى ولاقتصادها.
أما أوروبا فهى فى موقف حساس فى مواجهة أرمينيا وأذربيجان. ويشير فريديريك بونس إلى أن الحرب فى أوكرانيا وما نتج عنها من صعوبات فى إمدادات الطاقة قد غيرت الوضع.
والحقيقة أن الأمر مختلف تمامًا. وتتلخص المخاوف الأوروبية فى شقين: خفض واردات الغاز الروسى إلى الحد الأدنى لمعاقبة العدوان الروسى على أوكرانيا؛ ضمان إمداداتها من الغاز والنفط التى تمر من بحر قزوين إلى أوروبا عبر أذربيجان وتركيا. ويستفيد هذان البلدان من هذا الوضع بإبقاء أوروبا فى مكانة عالية وإجبار أرمينيا على الانحناء.
وفى رحلة بحثهم عن حلفاء إن لم يكن عن أصدقاء كاد الأرمن يسقطون فى كل مرة من ارتفاع. لقد اعتمدوا بشكل كبير على الحماية العسكرية لروسيا. كثيرا ما ترتبط الشبكات الموالية لروسيا بدوائر الفساد الاقتصادى أو العسكرى التى ابتلى بها المجتمع الأرمنى منذ الاستقلال (١٩٩١) وقد حافظت الشبكات الموالية لروسيا فى يريفان على هذا الوهم. كما اعتمدوا بشكل كبير على الدعم المعنوى والسياسى والعسكرى من قبل الغرب إلا أن السياسة الواقعية التى تنتهجها أوروبا وأمريكا أدت إلى نسف آمالهم.
إن الدفاع عن أرمينيا يعنى أيضًا الدفاع عن «رؤية معينة» للعلاقات الدولية: «اليوم نرفض شراء الغاز الروسى، لكننا نواصل شراء الغاز الأذربيجانى. ماذا يجب أن نفهم؟ هل ناجورنو كاراباخ أقل قيمة من دونباس؟ ويجب علينا ربط هذه المشتريات بإعادة فتح ممر لاتشين».
«إن هذا البعد الدينى يقع فى قلب المواجهة بين أرمينيا وأذربيجان» هذا ما صرح به آرام مارديروسيان أستاذ القانون المساعد فى جامعة باريس الأولى بانثيون السوربون ومدير الدراسات فى المدرسة التطبيقية للدراسات العليا وأعلن عنه فى مجلة الجبهة الشعبية فى مارس ٢٠٢١: «إن الجرائم ضد الإنسانية – تشويه أو قطع رؤوس الجنود والمدنيين، وتعذيب السجناء – والتدمير المنهجى للآثار المسيحية التى ارتكبها المهاجمون تشهد على تعصبهم الديني». ووجه هذا التحذير لزعماء الغرب: «إنهم بتخليهم عن أرمينيا التى تمثل مركزًا متقدمًا للغرب فى مواجهة العالم التركى الإسلامى فإنهم يتصرفون بطريقة انتحارية فى تلك الحرب الحضارية التى تشن ضدهم».
إن الدفاع عن ممر لاتشين وعن الهوية المسيحية لآرتساخ وعن الشعب الأرمنى ككل يهم أوروبا بأكملها. إن رفض هذه الحقيقة عن جهل أو عن رضا عن الذات الإيديولوجى لينطوى على خطر عدم فهم كل القضايا الخاصة بطموح العالم التركى الإسلامى و«رسالة» أرمينيا. وستكون النتيجة انتكاسة جديدة على تلك الجبهة حيث يواصل أعداء أرمينيا انتصاراتهم.
يمكن لفرنسا أن تلعب دورًا حاسمًا باعتبارها الرئيس المشارك لمجموعة مينسك المسئولة عن إدارة الصراع فى آرتساخ. لكنها لا تملك تحديد مسار واضح ومقروء إنها تلجأ إلى الحياد كما لو كان من الأفضل الهروب. وكان آرام مارديروسيان بهذه الكلمات يذكرنا بالفيلسوف وكاتب المقالات ميشيل أونفراى الذى قال: «الغرب ليس لديه سياسة حضارية».
أرض مسيحية انتزعت من أرمينيا فى عام ١٩٢١ وتم استعادتها فى عام ١٩٩٤ ثم فقدت مرة أخرى فى عام ٢٠٢٠ وتغذى آرتساخ بحلم بإعادة غزو الأرمن. وعندما نستمع إليهم وهم يتحدثون عن هذه الأرض فمن الواضح أننا نفكر فى كوسوفو ذلك «الإقليم الصربى التاريخى» الذى انفصل عن صربيا فى عام ١٩٩٩ فى نهاية الحرب التى قادها حلف شمال الأطلسى (بما فيها فرنسا) ضد الصرب. ومع ذلك كانت كوسوفو هى تاريخ وروح هذا الشعب. لكن شرعيتها التاريخية والدينية لا تزن شيئًا ضد الرغبة الغربية تحت النفوذ الأمريكى فى إنشاء دولة إسلامية جديدة فى أوروبا، باسم الديمقراطية.
يدرك القادة الأذربيجانيون هذه الحقيقة. وهم يسعون إلى استلهام ذلك من خلال العمل على تعديل توازن القوى الديمجرافى فى القطاع. ويهدف مشروعهم الاستباقى إلى استبدال السكان وهو ما يسمى فى منطقة أخرى بالتطهير العرقى. باكو تشجع المغادرين وتمنع الدخول بينما المجتمع الدولى يبحث فى مكان آخر.
«من بين المسيحيين فى الشرق فإن الأرمن فقط يحتفظون سواء من خلال كيانهم أو من خلال مصيرهم بالتوازى الكامل بالتوراة والتاريخ مع اليهود. فهم يشكلون بشكل عشوائى شعبًا ولغة وعقيدة. وهم أيضًا لديهم أرض وشتات. وهم أيضًا ناجون من كارثة لا توصف تهدف إلى إبادتهم. وهم أيضًا كشهود على قرن من اللاإنسانية يلزمون البشرية جمعاء عندما يكون وجودهم مهددًا بطرد جميع الأرمن من ناغورنى كاراباخ - بالقوة أو بالمجاعة أو بالقتل - واستخدام الحرب والعنف ضد جمهورية أرمينيامن اجل غزو واحتلال المزيد من الأراضى» هذا ما صرح به الكاتب ومدير إصدارات دو سيرف، جان فرانسوا كولوسيمو.
تعتبر الخاشكار الشهيرة (أى «الحجارة ذات الصلبان”) رمزا أساسيا للهوية الأرمنية. هذه اللوحات المنحوتة بالعديد من الصلبان والزخارف والنقوش تخص الفن الأرمنى والعقيدة الأرمنية. تم إنتاج هذه الخاشكار بشكل رئيسى بين القرنين التاسع والخامس عشر، وحتى القرن الثامن عشر، وهى مدرجة فى قائمة اليونسكو للتراث الثقافى غير المادى للإنسانية.
هل لدى الأرمن أصدقاء؟ هنا تتجمد الابتسامة والوجوم يخيم على الوجوه. يتنهدون ويكادون يتألمون من اضطرارهم إلى إعطاء هذا الجواب: «فرنسا بالطبع رقم ١ حتى لو...». ومن المستحيل عليهم أن يقولوا المزيد أو أن يعبروا عما فى قلوبهم دون المخاطرة بالإساءة إلى ضيفهم الفرنسى. إنه قوى فى الكلمات ضعيف فى الأفعال.
إذا كانت أرمينيا هى حقًا «رسالة الحضارة» الشهيرة التى يتحدث عنها أصدقاء أرمينيا كثيرًا - بينما قلما يتحدث عنها الأرمن أنفسهم - فإن الأمر متروك لهم لتحديد هذه الرسالة بشكل أفضل ومعرفة ما يمكن أن تجلبه للعالم حقًا. وكما أشار شارل ديجول فى يوليو ١٩٤١ فى دمشق: «إنكم شعب صغير غنى بالثقافة والتاريخ: الإنسانية تدين لكم بالكثير وأنا مقتنع اليوم أنه سيخرج من هذا العدد القليل من الناجين شباب شجعان شباب يدعم أرمينيا الآمنة والحرة والمستقلة».
لا شك أن الطريق الموصل إلى هذه النهضة يستحق أن يستكشفه النخبة السياسية والفكرية الأرمنية.ولا شك أن أحد المشاريع المهمة هو التعافى الديموغرافى وهو شرط رئيسى لصحوة أرمينيا.
إن كارثة إنسانية غير مسبوقة تحدث أمام أعيننا فى وقت يتطلع فيه الغرب إلى مكان آخر مستعدًا لتسوية مع أذربيجان وتركيا. إن هذا الرضا الأوروبى عن النفس لن يؤدى إلا إلى تشجيع سياسات القوة العنيدة التى ينتهجها الأوروبيون.
يروى فريديريك بونس وهو مراسل متخصص فى شئون القوقاز والقضايا العسكية الوضع المأساوى فى أرمينيا. وهو يذكرنا كيف أن مصير هذا البلد الصغير - أقدم دولة مسيحية فى العالم - يتعلق بشكل مباشر بأوروبا وقيمها. إن دعم أرمينيا يشكل تحديًا حضاريًا يجب مواجهته.
«هل يمكن أن تختفى أرمينيا؟ صراع منسى على أبواب أوروبا».. كتاب جديد من دار نشر أرتيج
أوليفييه دوزون: مستشار قانونى للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والبنك الدولى. من أهم مؤلفاته: «القرصنة البحرية اليوم»، و«ماذا لو كانت أوراسيا تمثل الحدود الجديدة؟» و«الهند تواجه مصيرها».. يتناول فى مقاله، أزمة أرمينيا من خلال عرض كتاب «هل يمكن أن تختفى أرمينيا؟ صراع منسى على أبواب أوروبا» للكاتب فريديريك بونس.