كم هو ضئيل هذا المقال الذي أكتبه تضامنًا مع غزة، ولكن ما حيلتي وأنا صحفي وممنوع علينا نحن معسكر الكتاب والصحفيين أن نذرف الدمع وأن واجبنا المقدس هو الرصد والكتابة والتحليل وأن تبتعد قليلًا عن مصادرك حتى تكون نزيهًا مُجردًا من الهوى.
ولكن الحال في الحرب على غزة مختلف.. الضحايا مدنيون محاصرون جوعى تنهش إصابات الحرب أعمارهم بسبب إنعدام الخدمات الصحية وعدم توفير العلاج اللازم، الأطفال هناك غارقون بين دموعهم ودمائهم، النساء لا يملكون إلا النظر إلى السماء والدعاء بالستر والنجاة، هذه محرقة بالصوت والصورة بينما المجتمع الدولي يستمتع بالمشاهدة.
لا يشعر بالنار إلا من يمسك بها، مناضلو الفنادق المكيفة يلتهمون وجباتهم الساخنة وينطلقون نحو تغريدات ساخنة أيضًا على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما المقابر في غزة تصرخ من ازدحامها بالجثث، لا يوجد صوت عاقل لكى يصرخ «أوقفوا إطلاق النار».. المخطط الشامل للمنطقة يمنع وقف إطلاق النار، غزة هي الهدف المؤقت بينما الكعكة الكبرى هي مصر المحروسة التي تتأمل المشهد وتدرس خياراتها بالعقل وبكل ما تمتلك من عمق الرؤية والرصيد الوطني.
الرسائل المصرية المتتالية واضحة، أول تلك الرسائل هي: لا يمكن القبول بتصفية القضية الفلسطينية على حساب الدول المجاورة، وأن سيناء التي دفع المصريون فيها الدماء لن تكون محطة للتهجير، قالت مصر وعلى العالم أن يسمع، قالت وعلى لسان رئيسها عبدالفتاح السيسي أننا وقت الحرب كنا مقاتلين ووقت السلم كنا مبادرين، هذه هي المعادلة السحرية التي قيلت في احتفال الكلية الحربية الأسبوع الماضي، وأظن أن هذه اللغة الواضحة قد وصلت إلى كل العواصم رعاة المخطط الجهنمي الذي يحاك لمنطقة الشرق الأوسط.
حدود مصر من الجنوب والغرب والشرق قد اشتعلت، فهل هناك من أي شك بأن القاهرة هي محط الأنظار؟ هذا لا يغيب أبدًا عن العزيمة المصرية حكومةً وشعبًا، لذلك لا وقت للسؤال عن من هو الذي بدأ معركة غزة، هذه المعركة أظنها كانت مؤجلة وأن إزاحة الغزاوية نحو سيناء هو حلم قديم عند الكثيرين الذين لا يريدون لنا خيرًا، وحسنًا فعلت القيادة المصرية التي أعلنت بوضوح وقوة أنه لا يمكن حل القضية الفلسطينية على حساب الدول المجاورة، ويقف معنا في هذا الإعلان كل أصحاب الضمير في العالم.
الحرب المنقولة على الهواء مباشرة من غزة لا بد أن يكون لها ما بعدها، حل الدولتين والمبادرة العربية وتفعيل إتفاق أوسلو كل هذه الخيارات مازالت على الطاولة، طريق الدم لا بد له من نهاية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني لا بد من الحصول عليها، حتى لا نكتب بعد عام أو عشرة أعوام مرثيات جديدة نبكي فيها الضحايا المدنيين، ويتكرر ذلك المسلسل الذي صار قبيحًا.
الحرب ليست نزهة، لدينا حروب أخرى نخوضها على مدار الساعة وهي حروب البناء والاستقرار ودعم الأمن والأمان ورعاية مستقبل الأجيال وصيانته، لدينا حروب ضد تخلف الفكر وضد انحطاط الذوق وتهديد مدنية الدولة، هذه هي الحروب التي تخوضها مصر من أجل بناء الجمهورية الجديدة.
أما وقد صار واضحًا أن هناك من يحاول عرقلة جيوش البناء وهي في طريقها للعمل، فعلينا الحذر كل الحذر والانتباه لموضع أقدامنا.. يقظة الرأي العام في مصر والمنطقة العربية هي طريق النجاة من هذه المحرقة التي يحاول أعداء الحياة دفعنا نحوها.
لا مكان للمزايدة ولا مكان للفتاوى الواردة من جنرالات المقاهي، الحالة كما نراها الآن واضحة وضوح الشمس، بلادنا في خطر ودوامة اللهب تحاول بكل مكر جر أقدامنا إليها، لذلك نعيد صرختنا من جديد «أوقفوا إطلاق النار» واذهبوا إلى حل نهائي كي يتوقف شلال الدم.
*كاتب صحفى