كان المصريون القدماء ينتظرون موسم الفيضان بفارغ الصبر، وبمجرد وصول الطمي، يسارعون بتجميعه وتقديمه لصانعي الفخار، لتصنيع الأواني والمستلزمات المنزلية والكهنوتية؛ فصناعة الفخار تعد واحدة من أقدم الفنون في تاريخ الإنسانية بشکل عام والحضارة المصرية بشکل خاص.
وترك المصريون القدماء وراءهم کميات ضخمة من القطع الفخارية متعددة الأنواع ومتنوعة الأشکال، والتي کانت تستخدم في مختلف الأغراض بواسطة جميع طبقات المجتمع،مما يعکس بشکل قوي ولافت أهمية الفخار ومنتجاته المتأصلة في صميم ثقافة المصريين القدماء.
والفخار في مصر القديمة لم يكن مجرد إناء أو قدر لاحتواء الطعام والشراب، بل کان بمثابة "وعاء ثقافي" متشعب الأبعاد يحوي جوانب عديدة من فکر ومعتقدات وعلاقات وطقوس وممارسات وأساليب المصريين القدماء الحياتية والمعيشية، وقد تجسد هذا بشکل واقعي في دخول المنتجات الفخارية في العديد من الأغراض المنزلية والزراعية والصناعية والتجارية والدينية والجنائزية والاجتماعية والثقافية.
وعن تاريخ صناعة الفخار في مصر القديمة، تقول الأثرية اماني النجار المتخصصة في مجال الفخار امينة متحف بالمتحف المصري بالتحرير، "يقصد بالفخار تلك القطع المصنوعة من الطين الذي يشكل وهو رطب لين ثم يترك ليجف واخيرا يتم حرقه في النار حتى يتصلب، فكان المصري القديم يقوم بتنقية الطمي من الشوائب وذلك من خلال نقعه في الماء حتى تطفو الشوائب على السطح ثم يضيف إلى الطمي قليل من التبن أو الروث ليزداد تماسكه ثم يتركه ليختمر لعدة أيام، ثم يبدأ بالتشكيل إما بالطريقة اليدوية أو باستخدام عجلة التشكيل أو باستخدام القالب ثم يتم تجفيفها وإحراقها".
وارتبطت بداية تاريخ صناعة الفخار عند المصري القديم مع بداية العصر الحجري الحديث عندما ترك الانسان القديم حياة البدو وتحول الى حياة اكثر استقرارا على ضفاف النيل، مع بداية معرفة اهل مصر لحرفة الزراعة ، وتوصل الى صناعة الاواني الفخارية عندما اكتشف صلاحية طمي النيل لتشكيل الأواني ثم استعمالها بعد حرقها.
واضافت "ازدهرت صناعة الفخار في مصر القديمة من مرحلة التشكيل باليد منذ عصر " نقادة الثاني" الى المرحلة التي استخدم فيها "عجلة التشكيل"، حيث ان اقدم وجود لعجلة مداره بالقدم يرجع الى نهاية عصر الأسرة الخامسة" .
وتشير تقنية التصنيع والزخارف على الاواني الفخارية بطريقة مباشرة الى تكون المجتمعات والدور الذي يلعبه الفخار في العديد من المجالات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وعلى الرغم من اهمية الفخار المصري القديم الا انه لم يحظ بالقدر الكافي من الدراسة في البداية، حيث اكتفى علماء الآثار بدراسة الزخارف التي توجد على سطحه الخارجي، حتى تأسيس عالم المصريات "فلندرز بتري" التأريخ التتابعي للفخار، وعقب ذلك استحوذت دراسة الفخار اهتمام الأثريين لكونه يعكس بطريقة أو بأخرى جوانب سلوكية مختلفة للمجتمعات في الماضي.
وأوضحت الأثرية اماني النجار أن المقارنة بين الأواني المكتشفة في الحفائر ومثيلاتها المصورة مع مناظر الحياة اليومية على جدران المقابر والمعابد منحت الاثريين صورة واضحة ومعلومات عن استخدام تلك الاواني، كما منحت النصوص المصاحبة للمناظر اسماء هذه الاواني، كما أعطت بعض تماثيل الخدم التي تعبر عن صناعة "الجعة" و"الخبز"، والمعروض منها بالمتحف المصري بالتحرير، تفسيرا واضحا لاستخدامات تلك الأواني الفخارية.
صناعة الفخار
وفي كتابه "صناعة الخزف والفخار في مصر" يؤكد الدكتور محمد يوسف بكر أن نهر النيل يعتبر عاملا فعالا في قيام صناعة الفخار في مصر منذ اقدم العصور، فقد ثبت بالفحص أن اجود أنواع الطينة المستخدمة في صناعة الفخار، والموجودة في التلال الواقعة على ضفتي الوادي، ليست الا مما حملته مياه النيل معها من "غرين" من اعالي الوادي في موسم الفيضان عاما بعد عام.
وحاول المصري القديم تجميل أوانيه الفخارية بشتى الطرق مثل "التكسية" او "التغشية" و"الغسول الاحمر" و"الصقل" او "التلميع"، فبعد تشكيل القطعة وقبل تمام جفافها يصقل الصانع آنيته بالحك بواسطة الاحجار الصلبة الناعمة، وفي احيان اخرى يصقلها بعد الحرق باستخدام بعض المواد التي تسهل هذه العملية مثل الزيوت والشحوم والشموع، وكانت عملية الصقل تساعد الى جانب تجميل السطح على سد مسام القطع الفخارية مما يجعلها اكثر حفظا للسوائل.
وعرف الإنسان البدائي الأول كيف يطلي آنيته الفخارية بدهون حيوانية و"راتنجات" نباتية ليغطي مسامها حتى يقلل من نفاذيتها للماء، وبرع المصري القديم في تشكيل المادة الخام المستخدمة في صناعة الفخار وفي اخراج العديد من الأشكال المتطورة للقطع الفخارية على مر العصور.
أهميته
ويؤكد علماء الآثار انه يمكن الاستفادة من الفخار في عملية التأريخ النسبي وتسلسل العصور القديمة وذلك طبقا لخصائص فخار كل عصر، ويعتبر الفخار مؤشرا مهما وحساسا يظهر الاختلافات الحضارية بين المناطق والعصور المختلفة،كما يستخدم الفخار المصري كوسيلة مهمة لإيضاح وتفسير بعض المسائل الحضارية، فبدراسته يمكن التعرف على طريقة الصناعة والمواد المستخدمة والغرض من صناعته، وكذلك العصر الذي صنع فيه، وذلك وفقا للبحث المنشور في مجلة الآداب والعلوم الإنسانية بعنوان "تطور صناعة الفخار بمصر القديمة".
ويوضح الدكتور ناجح عمر على أستاذ الآثار والحضارة المصرية القديمة بكلية الآثار جامعة الفيوم، أهمية الفخار كمصدر لمعرفة تفاصيل الحياة اليومية للجماعات البشرية في العصور القديمة، ومظهر من مظاهر التقدم من خلال الزخرفة على الفخار، وعلى الذوق الفني للتجمعات البشرية .
ومن خلال الموضوعات الزخرفية التي تبرز مهارة الصانع على الفخار، خاصة في "حضارة نقادة" ، يمكن التعرف على العادات الاجتماعية، وكذلك ممارسة الطقوس في الحياة اليومية، وعلى أنواع الحيوانات والطيور والنباتات التي تم استخدامها كمكونات زخرفية، ومعرفة جودة استخدام الأواني وتحويلها إلى رسوم ونقوش سواء بالنسبة للأواني ذات الغرض الديني أو الزخرفي، حيث أن الزخرفة على الفخار لها دلالة ومغزى في التعرف على الثقافة الأصلية والتاريخ ومدى التقدم والاستقرار، وكان لتأثير البيئة دورها البارز في هذا الصدد.
أنواعه
يستخدم مصطلح الفخار بالتحديد لتسمية كل انواع المشغولات خاصة اواني الطين المحروق، والتي ليست اواني حجرية او بورسلين ،والفخار يشمل كل من "التراكوتا" اى الطين المحروق، والأواني الطينية، وهي اول نوع انتج من الفخار وصنعت اساسا من "الطفلة" ، وتتميز بأنها مسامية وغير مزججة ويتراوح لونها بين الاحمر الى البني او الاسود، ويعتبر اللون الأحمر هو اللون الأساسي او الأكثر شيوعا للفخار بسبب وجود نسبة من الحديد داخل مكونات الطين.
فخار عصر ماقبل الاسرات
تعتبر صناعة الفخار المصري في عصر ماقبل الأسرات من ارقى الفنون والصناعات القديمة في ذلك الوقت، ولقد صنع المصري القديم في عصر ماقبل الاسرات كميات كبيرة من الفخار المتنوع الرقيق الاحمر والاسود والتي زينت بزخارف ورسوم حيوانية وآدمية، وحرص الصانع المصري القديم في تلك الفترة على انتقاء نوعيات جيدة من "الطفلة" .
فخار عصر الاسرات
لم يكن الفخار المصري في عهود الاسرات بنفس درجة الاتقان التي كان عليها في عصر ماقبل الاسرات، لوجود او ظهور اوجه اخرى يعبر فيها الفنان المصري القديم عن ذاته ومن احتياجاته فقد تطور في العمارة والنحت وغيرهما، كما بدأت معرفة المصري القديم تزداد بالمعادن وطرق تشكيلها للحصول على اواني قد تغني نسبيا عن استخدام الاواني الفخارية.
وفي تلك الفترة لم يعد للفخار المصري شخصيته المميزة وذلك طوال الدولتين القديمة والوسطى، واصبح من الصعب التعرف على فخار هذه الفترة ،وظهرت الالوان الزرقاء على الفخار في الاسرة ال 18 تحديدا في عصر الملك" أمنحتب الثالث "، وقلدت هذه الزخارف المصرية وانتقلت الى قبرص ورودس وكريت.
وبمرور العصور التاريخية في مصر لم يعد مصطلح الفخار يعني فقط تلك الأواني المصنوعة اساسا من "الطفلة" بل اتسع ليشمل الأواني المصنوعة من حجر ناعم او كوارتز شفاف، واستمرت هذه الطريقة بلاتغيير حتى عصر الأسرة ال26، واستمر حتى العصور اليونانية الرومانية.
فخار العصر اليوناني الروماني
ظهرت اهم ملامح تطور الفخار في العصور اليونانية الرومانية بمحاولة المصريين تقليد "التفاريق" في اوانيهم الزجاجية وتنفيذها في الفخار ،كما ظهر تطورا جديدا في العصور اليونانية الرومانية وهو يمثل واحدا من اعظم لحظات تاريخ الخزف في الشرق فقد ظهرت اواني مزججة بطبقة تزجيج زرقاء شفافة والتي تشبه الرخام بدرجة كبيرة كما لوكانت تقلد التعاريق الزرقاء الداكنة لحجر العقيق ،وقد انتجت ايضا في العصر الروماني الاواني المزججة المعروفة بخلط رمال الكوارتز مع ملح النطرون وطحنها وتمثل هذه المرحلة قمة تكنولوجيا صناعة التزجيج في مصر في العصر الروماني.
فخار العصر القبطي
شاع استخدام القطع الفخارية بوفرة في العصر القبطي وكانت تتميز ببساطتها وانعدام الزخرفة عليها حيث صنعت فقط للاستخدام العادي في الحياة اليومية ومن اهم اشكال الفخار القبطي المسارج التي كانت تستعمل كوسيلة للإضاءة.
فخار العصر الإسلامي
شهدت صناعة الفخار في العصر الاسلامي تطورا وظهورا للأشكال الجديدة في هذه الصناعة في العصر الاسلامي، وتم تشكيل وزخرفة ببراعة الاواني الفخارية، ويزخر متحف الفن الإسلامي بباب الخلق بالقاهرة بالعديد منها.
وتقدمت صناعة الفخار في العصور الاسلامية تقدما كبيرا اذ فتح المسلمون اقطارا كان لها ماض عريق في هذه الفنون مثل ايران والعراق والشام ومصر، وتأثر الفخار الإسلامي الى حد كبير بالخزف الصيني في تشكيل الأواني ، إلا ان الفخار الاسلامي يختلف اختلافا كبيرا من حيث قيمة الزخرفة واساليب الصناعة.