الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

سيباستيان ماركو تورك يكتب: تناقضات الغرب

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

«النافذة» الأكثر خطورة ليست «نافذة» بوتين!

 

لا شك أن انحطاط الغرب ما هو إلا عملية ديناميكية بدأت بعد عام ١٩٦٨. وقد تسارعت بشكل كبير. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنها عملية موجهة تتم على حساب غالبية السكان. ومن المذهل أن كل التطورات الجديدة التى واجهها الغرب على مدى العقد الماضى متناقضة بشكل ملحوظ.
ولا ننسى أن الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، وجماعات الضغط فى الخلفية والرعاة والمنظمين الرئيسيين للانحطاط الغربى بمساعدة وسائل الإعلام يفرضون بقوة قانون التناقض. وهو ظاهرة تهدف إلى اقصاء السكان الغربيين (الأوروبيين)، وهى ظاهرة لم يشهدها التاريخ بعد رغم أنه شهد الكثير منها.


لنأخذ فقط الأمثلة الأكثر وضوحًا فهناك أشياء قليلة متناقضة مثل المثليين والمثليات المهاجرين من مجتمعات غير أوروبية وربما يكون بينهم أقلية صغيرة من ذوى التوجهات الناشطة (وغالبًا ما يحصلون على أجور جيدة فى المنظمات غير الحكومية) ولكن أغلبهم يطمحون إلى الاندماج السلمي. وفى الحقيقة لا أحد يفكر فى الكشف عن حياته الحميمة فى الأماكن العامة. ويصبح الوضع أكثر تعقيدًا مع الأشخاص المتحولين جنسيًا.


وعلى الرغم من أن هذا يعتبر تناقضًا إلا أنه حتى مع أشد المسيحيين تدينا وتمسكا بالدين يتفقون معه. وفى السويد أصدر رئيس أساقفة أوبسالا تعليماته إلى رجال الدين بتجنب ضمائر المذكر عند الحديث عن الله. وهذا يعنى أن يسوع "ما وراء الجنس" أو حتى مرشحًا للمتحولين جنسيًا. وهذا هجوم على الأقنوم الثانى من الله، وهذا بالتأكيد هو أساس المسيحية.


لكن الحقيقة هى أنه لا يمكنك الاستسلام وتغيير جنسك حسب رغبتك. إن اختلاط الأنواع يوازى اختلاط الثقافات والهويات. ولا يمكننا تغيير وتكييف ثقافتنا أو هويتنا مع أى بيئة. وفى هذا الصدد فهناك إذن تناقض جديد يفرضه علينا الرأى العام، وهو أن التعددية الثقافية شرط أساسى للتعددية السياسية أو الديمقراطية. والتعددية هى فى الواقع شرط من شروط ذلك وهى الرابط بين الأنظمة السياسية التى تشكلت لأول مرة فى الولايات المتحدة وأوروبا. فهى تضمن تناغم مصالح المواطنين المختلفة والمتضاربة فى أغلب الأحيان عبر الكيان الاجتماعي، مما يعنى أن المواطنين (أولئك الذين يعبرون عن هذا الطموح) لديهم الفرصة للتواصل بطريقة تمكن من تحقيق المشروعات المشتركة. وبالتالى فإن التعددية لا وجود لها من دون الأحزاب السياسية والانتخابات والممثلين المنتخبين ديمقراطيا.


ولكى يعمل المجتمع بشكل كامل فى إطار ما نسميه بالديمقراطية فإن التعددية، بالمعنى الصحيح للكلمة تكفى للأداء بالغرض. إن إدخال عناصر التعددية الثقافية لا يضيف شيئا إلى التعددية السياسية فحسب، بل يؤدى إلى الارتباك وإضعافها. لأن العديد من البلدان غير التعددية كانت متعددة الثقافات. ومثال على ذلك يوغوسلافيا: المكونة من تسع دول وقوميات، وثلاث ديانات وكتابين مقدسين (اللاتينية والسيريلية). لكنها لم تكن تعددية ولا ديمقراطية. وعندما تضاءل الإرهاب السياسى مع التغيرات الديمقراطية فى أوروبا (سقوط جدار برلين) بدأت جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية فى التحول إلى دولة تعددية ولكنها لم تتمكن أبدًا من أن تصبح متعددة الثقافات. من هنا جاءت الحرب الأهلية التى بدأها سلوبودان ميلوسيفيتش باسم هيمنة الهوية الصربية على الهويتين البوسنية والكرواتية.


لم يكن الاتحاد السوفيتى بلدًا تعدديًا قط؛ والسؤال هل كانت روسيا القيصرية تعددية؟. ولكن كلاهما كانا متعدد الثقافات وخاصة الاتحاد السوفيتي. لقد تحدث لينين كثيرًا عن حق الأمم فى تقرير مصيرها وبموجب قانون تاريخى تم تحقيق حق الأمم فى تقرير مصيرها بالتحديد فى العام الذى انهارت فيه الإمبراطورية الحمراء (١٩٩١). إن الصين اليوم دولة متعددة الثقافات ولكنها ليست تعددية ولا ليبرالية ولا ديمقراطية. واليوم كثيرًا مانشهد الدول المتعددة الثقافات غير ديمقراطية وهى فى كثير من الأحيان أيضا متعددة الصراعات ذلك أنها مستهلكة بسبب خلافات وطنية مختلفة غالبا ما تندلع فى شكل حروب أهلية. وهذا هو الحال فى بيروت والبوسنة والهرسك الحالية على سبيل المثال لا الحصر. ولسوء الحظ فإن مناطق معينة من أوروبا وخاصة فى فرنسا تتأثر بذلك بشكل متزايد. كما أن التدمير الذاتى المتعمد للغرب والذى أصبح الآن أمرًا شائعًا لا يتوقف عند هذا الحد بل يمتد الأمر إلى منطقة أكثر حساسية وهى الهوية الثقافية. وفى هذا الصدد، تتجلى عملية واضحة دفعت سكان الغرب إلى التحسرعلى الجذور التاريخية لثقافتهم بحجة تعرضها للاستعمار والعنف تجاه الأمم الأخرى. أن موقعها المهيمن فى التاريخ قد سبب الكثير من سوء الحظ للدول الأخرى وخاصة فى القارات الأخرى. وعليها أن تتوب عن ذلك وبالتالى التخلى عن هويتها بأكبر قدر ممكن من التكتم. يسمح الناس (فى الولايات المتحدة) عن طيب خاطر بأن يتم تقييدهم بالسلاسل والنير (مثل العبيد)، ويتجولون وينطقون بصوت عالٍ "mea culpa". بمعنى أنه لا يوجد أى حرية! كاتب هذا المقال جاء من بلد كان مستعبدًا فى ظل الشيوعية. إنه يعرف ما هى الحرية ويعرف كيف يقدرها: ولكن فى الوقت نفسه يبدو له أن اتباع بروتوكولات اتهام الذات هذه ستكون بمثابة نهج مرضى.


وفى أوروبا التى تعد المجال الرئيسى لتطبيق ما يسمى بانتحار الهوية يطمح من هم فى السلطة سياسيا وإعلاميا إلى تحقيق هوية عابرة للحدود الوطنية تختفى فيها الأمم والثقافات الفردية. ويتجلى مدى تناقض هذه التطلعات على سبيل المثال فى أفكار أندريه مالرو، التى عبر عنها فى واحدة من أشهر خطاباته فى فترة ما بعد الحرب. كلماته تكاد تكون اكثر صلة بحال اليوم اكثر من ذى قبل. ومن ثم: "نحن نعلم أننا لن نكون انسانا بقدر ما نكون أقل فرنسية. وسواء كان ذلك للأفضل أو للأسوأ فنحن مرتبطون بالوطن. فلن نكون أوروبيين بدون الوطن الذى يجب علينا أن نفعله سواء أردنا ذلك أم لاهو أن نعلى فكرةمن الأوروبية ".


وفى واقع الأمر: مع التهديد بالتقليل من قيمة هوية المرء فإن شيئا ما يخرج عن نطاق السيطرة. فى الحقيقة هى حالة تحتاج إلى علاج نفسى أو حتى نفسى خاصة أن السلطات ووسائل الإعلام تطالب المواطنين بتبنى سلوك مرضى من وجهة نظر المواطنين. إن مثل هذه المفارقة لم تكن موجودة قط فى تاريخ أوروبا. إذا كان تدنى احترام الذات لدى الغرب هو الهدف النهائى لهذه الجهود، فهذا يعنى أن هناك خطأً كبيرًا لدى أولئك الذين يسعون جاهدين لنشر هذه الثقافة.


ولنأخذ مثال الفرد الذى يعاني، على سبيل المثال من تدنى احترام الذات وهو أمر يلعب دورًا مهمًا فى تشكيل سعادة الفرد ونوعية حياته. يشعر الأشخاص الذين يعانون من تدنى احترام الذات بأنهم ليسوا جيدين بما فيه الكفاية أو غير قادرين على القيام بأى شيء بشكل جيد مما قد يؤدى إلى تطور مشاكل مزمنة مثل الاكتئاب والقلق. وبالتالى فإن السلطة والاعلام فى الغرب يدفعان الناس إلى مواقف قد تتعرض فيها نزاهتهم للخطر. إن فرض "تدنى احترام الذات" هو فى الواقع تمهيد للتخلى عن الهوية أو تبنى هوية أخرى. يعانى الأشخاص الذين تخلوا عن هويتهم القديمة وتبنوا هوية جديدة بشكل خاص من متلازمة "تعدد الشخصيات"، والتى تسمى اضطراب الهوية الانفصامية. غالبًا ما توجد هويتان أو تعدد شخصية أو أكثر داخل مثل هذا الفرد.
 

يتعلق الأمر بالوعى بالذنب، والذى يجعل الغربى كائنًا بلا جذور وبلا هوية أو بهوية معدلة. إذ لم يعد هناك مجال للذاكرة التاريخية ولا للجذور الثقافية. يتعلق هذا أيضًا بأشخاص LGBT+، وخاصة الأشخاص المتحولين جنسيًا، الذين وقعوا فى هويتين، سواء اعترفوا بذلك أم لا.


والسؤال الأساسى الآن هو لماذا تحظى مثل هذه عمليات المرض بهذا القدر من الاهتمام. من الصعب العثور على الجواب. ومع ذلك يمكن اقتراح الإجابة الآتية قد يعنى تدمير الحضارة الغربية من خلال نوع من التجربة التى تستخدم مبدأ نافذة أوفرتون والمعروف أيضًا باسم نافذة الخطاب قد يعنى قصة رمزية تحدد الأفكار أو الآراء أو الممارسات التى تعتبر مقبولة إلى حد ما فى الرأى العام للمجتمع. المصطلح يأتى من اسم منشئه، جوزيف ب. أوفرتون. ويشير فى وصفه لهذا التعريف إلى أن الجدوى السياسية لفكرة ما تعتمد فى المقام الأول على ما إذا كانت تقع ضمن هذه النافذة وليس على التفضيلات الفردية للشخصيات السياسية. فى وصف أوفرتون، تتضمن نافذته سلسلة من السياسات التى تعتبر مقبولة سياسيًا وفقًا للرأى العام الحالى والتى يمكن للسياسى أن يقترحها دون أن ننظر اليه على انه متطرفًا للحصول على منصب عام أو الاحتفاظ به. لذا يحاول من هم فى السلطة ووسائل الإعلام إقناعنا بأن الشيء غير الطبيعى هو فى الواقع أمر طبيعي. وبما أنه لم يكن أحد يفكر بهذه الطريقة قبل عقد من الزمان فسوف يقنعوننا قريبًا أن الجميع فكر بهذه الطريقة ولكننا لم ندرك ذلك.
سيباستيان ماركو تورك: دكتوراة فى الآداب من جامعة "السوربون" باريس وأستاذ جامعى، يكتب تأملاته حول تناقضات المجتمعات الغربية.