الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الرأسمالية المتوحشة والعوز المادي

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

حين نتحدث عن مصطلح «العوز المادي» يخطر ببالنا صورة الكائن البشري، الوقع في براثن الجوع، والتشرد والمرض والهامشية الرثة؛ التي تجعله يعجز عن العيش بحرية وكرامة، ويظل محرومًا من الحد الأدني من الضرورات التي تضمن استمرار وجوده على قيد الحياة. هذا هو العوز المهين الذي تُدهس فيه كل القيم الإنسانية والطبيعة الفطرية. نحن أمام ظاهرة مقترنة بالاستغلال واللا مساواة والتهميش، وأيضًا وسيلة لإذلال الفرد وقهره وحرمانه من التحكم في مقدرات حياته، وعجزه عن التأثير في المجتمع، تتنامى هذه الظاهرة وتتفشى في ظل وجود عمليات الهيمنة الرأسمالية المتواصلة بغية إنتاج واقع مؤلم بكل تجلياته الماثلة أمام أعيننا، هذه ديناميكية مشتركة فى جميع دول العالم بدرجات متفاوتة وبصور متنوعة. ولكنها تظهر بجلاء في المجتمعات الفقيرة والمعدمة، والتي تُسمى – على نحو مهذب – المجتمعات النامية.

    ظاهرة العوز المادي هي شكل من أشكال الاستبعاد الاجتماعي، يناضل الفرد من أجل إشباع احتياجاته الأساسية، وقد يعجز عن تحقيق ذلك، مما يولد لـديه شعورًا بالعجز واليأس والدونية، يجعل هذه الفئة من البشر تعيش في حالة من التهميش والانطواء، ويصير أفرادها في عزلة اجتماعية دائمة، وفي أحيان كثير يصبح قطاع كبير منهم تربة خصبة لنمو الأفكار المتطرفة وغرسها، سواء من جماعات إرهابية أو عصابات إجرامية؛ ليس لمجرد إشباع حاجتهم المادية فحسب، ولكن أيضًا بسبب ما يعتمل بداخلهم من حقد تجاه المجتمع، وكراهيتهم له وفقدانهم الثقة فى مؤسساته.

إن الشعور بالعوز المادي قد يدفع الفرد - في بعض الأحيان - إلي ارتكاب بعض الجرائم كالسرقة مثلًا – من أجل إشباع حاجاته الأساسية، ويُعَد هذا الشخص - فى نظر القانون - لصًا يستأهل العقاب. على الجانب الآخر، تتم السرقة على يد الأغنياء والأثرياء ورجالات الدولة والمسئولين الكبار؛ الذين يمتصون دم العمال والكادحين من الفئات الدنيا للشعب، في مثل هذه الحالات يتم النظر إلى هؤلاء اللصوص الكبار، لا بوصفهم مجرمين؛ وإنما باعتبارهم الساهرين على مصلحة الوطن والمواطن!! وتزداد الطين بلة حين يسعى أولئك اللصوص لتجميل صورتهم؛ فيعلنون عن تبرعهم من أجل وطنهم بمبلغ من المال يعادل جزءًا ضيلًا من حجم الصفقات التي يتربحون منها!! إن سياسة الصدقات والتبرعات والهبات، هى في حقيقة الأمر إمتهانً لكرامة الإنسان وإذلالٌ له. ومن أجمل ما قيل عن «العوز المادي» مقولة المناضل الثائر «تشي جيفارا» الذي قال: «إن الفقر ليس عيبًا..» وكان على وشك أن يستطرد من أجل إكمال كلامه، إذ كان يريد أن يقول:.. بل هو جريمة»، ولكن الأغنياء قاطعوه بالتصفيق الحاد!!

    لاشك أن الظلم وتبني السياسات الطبقية التي تعمل على إغناء الغني وإفقار الفقير؛ هي متلازمة الأنظمة التي تتصف بخصائص أهمها غياب العدل والافتقار إلى المساواة في توزيع الدخل القومي، والعمل على اتساع دائرة الحرمان المادي، التي تُعَد أقصر الطرق وأسرعها لنشر العبودية والتبعية وتغييب الوعي، ولقد عبر كارل ماركس عن ذلك بوضوح شديد؛ في مقولته الشهيرة: «الفقر لا يصنع الثورة، إنما الوعي بالفقر هو الذي يصنع الثورة. أما الطاغية، فمهمته تكمن في أن يجعلك فقيرًا، في حين أن مهمة رجل الدين المتحالف مع الطاغية هى تغييب وعيك».

غالبًا ما يسعى أى حاكم للسيطرة على شعبه وجعله عاجزًا خاضعًا لإرادته مفتقرًا لمشيئته،  يستمد قدرته على السيطرة من الحاجة المستمرة للطرف الآخر بدلًا من المواجهة، فالعبودية لكي تؤسس طبقات اجتماعية مستلبة الإرادة وذليلة لها، تنطلق من مدخل واحد هو التحكم في قوت المواطن التي تفضي إلى التحكم في فكره، وبذلك يصبح الفرد مسلوب الإرادة وفي حاجة مستمرة إلي ذات أخرى أقوى منه، حيث إنه لا يستطيع تحمل ذاته الفردية المستقلة عن ذوات الآخرين ليخضع لها ويحتمي بها.

       أسهمت الأيديولوجية الأصولية الدينية في ترسيخ  ظاهرة العوز والتفاوت الطبقي في ذهنية المحرومين بوصفها أمرًا طبيعيًا وقدريًا، ويتم تبشيرهم أنه بفضل فقرهم؛ هم أقرب إلى الله من الأغنياء. كما يحث رجال الدين الناس على الزهد المادي، ويهنئون الفقراء على إيمانهم وترك متاع الدنيا الفانية للأغنياء، ويرددون - على مسامع الفقراء - ليل نهار - أن الآخرة خيرٌ وأبقى؛ وأن الثروات فيها غواية للنفس البشرية، وهى تصرف الإنسان عن ذكر الله وعبادته، وهكذا يمتثل البسطاء لمصيرهم المحتوم، ويسعدون بحرمانهم على أمل الفوز بالثروة الحقيقية التي تنتظرهم في الآخرة. وإذا نسينا فلن ننسى رجل الدين في الفيلم المصري «الزوجة الثانية» وهو يحث الفلاح الفقير على التوقيع من أجل التنازل عن حقوقه، قائلًا له: «أمض يا ابو العلا يا إبني!!»

نحن لسنا ضد الدين، ولكننا  ضد سطوة رجال الدين على عقول الفقراء واختزال دور الدين عندما يتعلق الأمر بالعوز في مجرد التعاطف والمُواساة والدعاء بالخير، كما أننا نرفض الكلمات الناعمة المخادعة التى تخدر وعي الفقراء، وتعدهم بأن العدالة لا تتحقق على الأرض، بل ستتحقق هناك في السماء. إن الأديان جميعًا كانت في الأصل ثورة ضد الظلم، ودعوة للعدل والحرية وحماية المقهورين والمستضعفين من أجل استعادة إنسانيتهم وحقوقهم المهدرة. 

 

دعاء حسن