تنوَّعَت المواقِفُ التي اتَّخَذها الإعلام الفرنسي تجاهَ نتائج حرب أكتوبر ٧٣؛ فقد تعدَّدَت ما بَينَ اعتبارها هزيمة لمصر وانتصارا لطرفي الحرب، بمعنى أن مصر استردت هيبتها ودورها وأعادت توحيد صفوف العرب وراءها، وإسرائيل ضمنت البقاء والسلام.
فلا يتحدث أغلب الإعلام الفرنسي عن انتصار عسكري مصري في حرب كيبور، كما يسميها الغرب بشكل عام، بل عن حرب لعبت فيها الاستراتيجيات دور البطولة.
ويحق لنا إذن أن نتساءل عن دوافع وخفايا الموقف الفرنسي. هل يمكننا ترجيح ذلك إلى عداء غربي موروث من زمن عبد الناصر كما يعتقد البعض؟، أم إلى رد فعل طبيعي من أمة استعمارية كفرنسا؟
يقول المفكر الاقتصادي د. شريف دلاور، إن الموقف الفرنسي يعكس قناعة تُعد من وجهة نظرنا تعسفا، لكن كي نتوصل إلى رؤية عقلانية لا بد من اعتماد الفكر المعقد كمنهج، فالعوامل التي شكلت العقل الفرنسي وأثرت في الميديا الفرنسية متعددة ومتداخلة.
ويتطرق "دلاور"، إلى بدايات اليمين المتطرف العنصري، سواء كانت فكرية أو سياسية، والتي كانت عاملا مؤثرا في طبيعة الموقف الفرنسي من مصر ويمكن الاستشهاد في هذا السياق بكتاب شريف الشوباشي الصادر سنة ١٩٩٢ "هل فرنسا عنصرية؟ إشكالية الهجرة العربية والإسلامية في أوروبا".
ويؤكد "دلاور"، حساسية فرنسا الشديدة من التعاون الجزائري المصري، قائلا "إذا استثنينا وجود مقر شركة السويس في باريس والتي باتت مع تولي الخديوي إسماعيل تحت سيطرة الإنجليز، فيمكننا القول بأن جي موليه الذي شغل منصب وزير الدولة عدة مرات في عهد الجمهورية الرابعة، وكان رئيسًا لمجلس الوزراء، من فبراير ١٩٥٦ إلى يونيو ١٩٥٧، وزعيما للحزب الاشتراكي الفرنسي لم يتخذ موقفا عدائيا اتجاه مصر في العدوان الثلاثي، فقط لتعاطفه مع اسرائيل، بل أيضا نتيجة موقف مصر المتمثل في ارسال أسلحة إلى الجزائر سنة ١٩٥٤ عند اندلاع الثورة الجزائرية.
فالجزائر نقطة حساسة بالنسبة لفرنسا، تعتبرها قطعة منها والأمر يختلف عن استعمارها لتونس والمغرب.. "البحر المتوسط يقطع فرنسا مثلما يقطع نهر السين باريس" مقولة شهيرة أطلقها أتباع "الجزائر الفرنسية" دالة على ذلك.. لقد شاركت الجزائر بالسلاح وبالتمويل ولقد دفعت مبلغا يقدر بـ٢٠٠ مليون دولار لصالح سوريا ومصر.
نقطة أخرى أثارها د.شريف دلاور متعلقة بحساسية الفرنسيين الراسخة من استعمار للجزائر دام قرنا ونصف وهي المتمثلة في الحقد الذي ولّدته تسمية الفرنسيين المولودين في شمال افريقيا بـ"الأقدام السوداء" ويعود ذلك إلى عدة فرضيات، أبرزها المستوى المعيشي المتدني لهؤلاء.
وفى تحليله، يثير "دلاور" نقطة مهمة، قائلا "إن تيارات من الحركات الاشتراكية السائدة في فرنسا حتى الستينات متعاطفة جدا مع الصهيونية لأن الحركة الصهيونية نفسها وفي بدايتها تشكّلت بها أحزاب صهيونية اشتراكية، كحزب عمّال الصهيون (Poale Zion) الذي أسسه بير بوروخوف في أوائل القرن التاسع عشر. وأول حزب اشتراكي أسسه السياسي الفرنسي جون جوريس في بداية القرن العشرين كان متوافقا مع الحركة الصهيونية.
كان حزب العمل الإسرائيلي ذو التوجه الاشتراكي القوي هو المسيطر، منذ تأسيس دولة إسرائيل، على الحياة السياسية الإسرائيلية إلى ١٩٧٧ حيث لم يؤسس الليكود إلا في سنة ١٩٧٣. ولقد تعاطفت معه الحركات الاشتراكية في فرنسا في ذاك الوقت"، والمعروف أن دافيد بن جوريون الشخصية السياسية الصهيونية المتعصبة كان أول رئيس حكومة إسرائيلي ومؤسسا لحزب العمل الإسرائيلي.
حكومة فيشي والنازية
يضيف د.شريف دلاور: "أما بالنسبة إلى التعاطف الأوروبي والفرنسي على وجه الخصوص فيعتبر الفرنسيون أن الجنرال فيليب بيتان، رئيس حكومة فيشي، خائن وعميل للنازية وهذا الموضوع يثار في الإعلام الفرنسي إلى يومنا هذا.
وقد واجه الوجه اليميني المتطرف إيريك زمور، مرشح الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، وابلًا من الاتهامات لاعتباره أن بيتان حمى اليهود الفرنسيين من خلال عقده لصفقة مع النازيين تتمثل في تسليمهم اليهود غير الفرنسيين مقابل احتفاظه باليهود الفرنسيين.
الميديا الصهيونية المسيحية
ويقول د.شريف دلاور: "لا بد من التذكير بأن للميديا الصهيونية المسيحية CHRISTIAN ZIONISM تأثيرًا قويًا في الولايات المتحدة أقوى من الصهيونية من حيث ما تبثه والدراسات التي تنجزها. كما أن سيطرة اليهود أو تأثيرهم على الميديا الفرنسية واقع لا يمكن تجاهله فأبرز الوجوه الإعلامية الفرنسية يهود..".
ويضيف: "وفي نهاية الأمر؛ لا وجود لحرية ميديا في العالم. تصر الميديا العالمية على جعل رئيس كوريا الشمالية أخطر رجل في العالم فهل هو سبب مآسي العالم؟ قطعا لا، ومع ذلك نراه على ذلك النحو. إذن تُدار الميديا حسب مصالح الرأسمالية العالمية وهو ما يجري اليوم".
وفي مقال صادر بمجلة "لوبوان" الفرنسية بتاريخ ٣١ يناير ٢٠١٦، نشرت نتائج لاستطلاع آراء الفرنسيين لمدة ١٨ شهرًا حول تصورهم للمجتمعات اليهودية والمسلمة، قامت بها شركة Ipsos فكانت النتائج مذهلة. ٥٦٪ من الفرنسيين يرون أن لليهود نفوذا كبيرا وأنهم أثرى من متوسط الفرنسيين وبالنسبة إلى ٤١٪ من الفرنسيين فإن اليهود متواجدون إعلاميا أكثر مما ينبغي. يعتقد ٦٠٪ أن لليهود نصيب من المسئولية في صعود معاداة السامية بينما يرى ١٣٪ فقط بأن هناك عددا قليلا جدًا من اليهود في فرنسا.
وبغضّ النظر عن دقة نتائج استطلاع الرأي ومصداقيته فإن طرح مشكل نفوذ اليهود في فرنسا يُعتبر دليلا على أنه أمر محير للفرنسيين في حد ذاتهم.
يختلف المحلل السياسي حسام نصار، مع المفكر الاقتصادي د.شريف دلاور، فهو يعتبر أن مقولة "تعسف فرنسي في تقييم حرب أكتوبر"، هي في الحقيقة مقولة متعسفة في حد ذاتها، لأنها غير صحيحة في تعميمها.
ويضيف "نصار": ربما كانت هناك بعض الأصوات التي تقلل من شأن الانتصارات المصرية والعربية، كون فرنسا بها حوالي نصف مليون يهودي، وهي أكبر نسبة في أوروبا، وثالث أكبر وجود يهودي في العالم بعد إسرائيل وأمريكا، ناهيك عن نفوذ آل روتشيلد الاقتصادي والسياسي في فرنسا، ولكن التعميم بالقول إن رؤية فرنسا للحرب، أو حتى رؤية عموم اليهود لها، بها تقليل من حجم الانتصار، هو التعسف بعينه.
ويتابع: "فرنسا إبان الحرب كانت لا تزال ديجولية بامتياز، تحت قيادة جورج بومبيدو، وهو الرئيس الفرنسي الذي باع طائرات ميراج لليبيا. وفرنسا وقتها، وكذلك بريطانيا، ويا للعجب، كانت لهما مواقف حيادية من الحرب، ولكنها كانت تميل قليلًا بناحية مصر والعرب، والدليل على هذا هو استثناء البلدين من حظر البترول العربي.
ومن أهم الكتب التي تناولت حرب أكتوبر، كتاب للكاتب الفرنسي "جان كلود جيبوه" بعنوان: «الأيام المؤلمة فى إسرائيل». يسوق المهندس حسام نصار بعض من مقتطفات الكتاب.
فيقول الكاتب: "كانت حرب أكتوبر بمثابة زلزال، فللمرة الأولى في تاريخ الصهيونية حاول العرب ونجحوا في فرض أمر واقع بقوة السلاح، ولم تكن النكسة مجرد نكسة عسكرية، بل أصابت جميع العناصر السيكولوجية والدبلوماسية والاقتصادية التي تتكون منها قوة وحيوية أي أمة.
لقد دفع الإسرائيليون ثمنا غاليا لمجرد محافظتهم على حالة التعادل بينهم وبين مهاجميهم، وعادلت نسبة خسائرهم إلى تعدادهم في ظرف ٣ أسابيع ما خسرته أمريكا خلال ١٠ سنوات في حرب فيتنام مرتين ونصف، كان الجنرالات الإسرائيليون ورفاق السلاح يلقون محاضرات على جمهورهم المعجب بهم حول حملاتهم المختلفة، وما كادت حرب ١٩٧٣ تبدأ، حتى أخذوا يتبادلون الاتهامات وأقسى الإهانات، وللمرة الأولى شاهد الإسرائيليون المنظر المخزي لأسراهم ورؤوسهم منكسة على شاشات التليفزيون العربي".
وفي موضع آخر، قال الكاتب "في الساعة العاشرة والدقيقة السادسة من صباح اليوم الأول من ديسمبر أسلم ديفيد بن جوريون الروح في مستشفى تيد هاشومير بالقرب من تل أبيب ولم يقل ديفيد بن جوريون شيئا قبل أن يموت غير أنه رأى كل شئ، لقد كان في وسع القدر أن يعفي هذا المريض الذي أصيب بنزيف في المخ يوم ١٨ نوفمبر ١٩٧٣ من تلك الأسابيع الثمانية الأخيرة من عمره.
وأضاف: لكن كان القدر قاسيا ذلك أن صحوة الرئيس لمجلس الوزراء الاسرائيلي في أيامه الأخيرة هي التي جعلته يشهد انهيار عالم بأكمله وهذا العالم كان عالمه لقد رأى وهو في قلب مستعمرته بالنقب إسرائيل وهي تنسحق في أيام قلائل نتيجة لزلزال أكثر وحشية مما هو حرب رابعة ثم راح يتابع سقوط اسرائيل الحاد وهي تهوي هذه المرة من علوها الشامخ الذي اطمأنت إليه حتى قاع من الضياع لا قرار له.
ويتساءل الكاتب: "هل كان الرئيس المصري أنور السادات يتصور وهو يطلق في الساعة الثانية من السادس من أكتوبر دباباته وجنوده لعبور قناة السويس إنه إنما أطلق قوة عاتية رهيبة كان من شأنها تغيير هذا العالم.. إن كل شيء من أوروبا إلى أمريكا ومن أفريقيا إلى آسيا لم يبق على حاله التي كان عليها منذ حرب يوم عيد الغفران".
إذن، ليس صحيحًا ما يقال عن تعسف فرنسا تجاه النصر المصري العربي، ولكن الأصح أن يقال أن بعض الأصوات – ذات الهوى الإسرائيلي - تقول بالتعادل في الحرب، نظرًا لأن إسرائيل صنيعة غربية في الأساس، ولكن التعميم خاطئ، فالثقافة الفرنسية الرصينة غير ذات الهوى، تعرف جيدًا ما تعرضت له إسرائيل من زلزال كاد يعصف بها، لولا الجسر الجوي الأمريكي الذي أنقذها من الضياع".
كراهية دول الغرب الاستعماري لمصر
في السياق نفسه؛ يقول اللواء سمير زين العابدين: "الحقيقة أنه ليست فرنسا وحدها من احتفت بثغرة الدفرسوار بل معظم دول الغرب الاستعماري الذي لم تكن لمصر إلا كل كراهية، نتيجة حرب السويس والعلاقات السياسية السيئة في حقبة عبد الناصر. صحيح أن الموقف الرسمي لإنجلترا وفرنسا كان حياديا في بداية الحرب ولكن هذا لم يمنع سعادتهم بنجاح اسرائيل في إحداث الثغرة. فقط للعلم أن خطة الهجوم الجوي الإسرائيلي في ٦٧ تم اعدادها في فرنسا". يؤكد اللواء سمير زين العابدين إن التقييمات القائلة بانتصار مصر وإسرائيل على حد سواء ليست صحيحة مقدما الشرح التالي "الثغرة علميا، من الناحية العسكرية، هي معركة ضمن العديد من المعارك التي دارت في حرب اكتوبر والتي شملت الضربة الجوية والتمهيد النيراني وعملية اقتحام القناة، وتدمير النقط القوية واحتلال جزء من الأرض المحتلة والتمسك بها وصد الهجمات المدرعة المضادة..".
ويضيف زين العابدين: كلها معارك حقق فيها الجيش المصري نتائج مبهرة رغم المقارنات النوعية التي كانت تميل إلى جانب الاسرائيلي، صحيح أن ثغرة الدفرسوار حسنت الموقف التفاوضي قليلا للجانب الآخر ولكن المحصلة النهائية كانت نجاح مصر في تحقيق الهدف السياسي والذي تقوم المعارك من أجله". وينهي اللواء سمير زين العابدين حديثه قائلا "مغالطة كبري أن نعتبر أن اختراق جزء بعرض ٧ كم من مواجهة القتال التي امتدت لـ١٦٠ كم هزيمة عسكرية، وفي النهاية الانتصار يقاس بتحقيق الأهداف السياسية".