رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مغامراتى مع العصا البيضاء!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 

 

لكل منا عصاه ترشده وتكفيه شر عمى العقل والروح فإن هو ألقاها قاده عماه إلى حتفه حتمًا.بين عشقى لتسلق أشجار الزيتون المعمرة فى ظلام الليل الحالك وقيادة السيارات وسط عتمة عيناى، إلى امتطاء عصاى البيضاء فى شوارع القاهرة المزدحمة، والقلم الذى أقبض عليه بعقلى وأذناى لممارسة عملى فى بلاط صاحبة الجلالة؛ تكمن مغامراتى الصغيرة والكبيرة.

مثل كثيرين مازال قلبى عالقًا ببعض أفلام الكرتون التى شاهدتها صغيرًا، ورغم تجاوزى الخمسين بعام ونصف العام، اقتنص بين الحين والحين قطعة من الزمن لأعاود مشاهدة مغامرات الفضاء (جريندايزر) ومغامرات سندباد، فلونة وغيرهم.

كانت اللغة العربية الفصيحة بنطقها السليم أول ما نتعلمه من تلك الأفلام، غير أنها كانت أيضًا تسقينا قيم الشجاعة والكرم والإقدام والصدق وحب المغامرة، أو بالأحرى تعلمنا منها أن الحياة كلها مغامرة محسوبة ومن لم يخضها باعتبارها كذلك فقد لذتها وكان من الخاسرين.

فى الـ15 من أكتوبر يحل اليوم العالمى للعصا البيضاء كرمزية تشير إلى المكفوفين حول العالم لنشر التوعية بما له من حقوق وما عليه من واجبات، وبما أننى كتبت الأسبوع الماضى فى هذه الزاوية عن بعض ذكرياتى فى سنة أولى فى مدرسة العميان (طه حسين للمكفوفين) وما تعلمته من دروس مضيئة فى ذلك العالم المظلم، أردت الكتابة هذه المرة عن مغامراتى مع العصا البيضاء والتى يتجاوز الإحساس بها ما يعترضنى من عراقيل وحفر وبالوعات وأرصفة مزدحمة وغير معبدة فى مدينة بحجم القاهرة فتلك أقل المغامرات أهمية وإن كان السهو والنسيان والخطأ معها قد يعنى خسارة الحياة، أو النزول ضيفًا فى مستشفى للعظام فى أحسن الأحوال.

أظن أن حب المغامرة بعقل يقظ وأذن مفتوحة صاحب الفضل الأكبر لأكون حتى الآن من الناجين؛ فالخوف إذا اعتراك صمّ أذنك وغمّ عقلك حينها فقط تسقط لمجرد تعثرك فى حجر صغير أو تصدمك سيارة مسرعة.

عندما وعيت فى سن التاسعة أن نور عينى ماضٍ فى سرعة الهاوى من قمة جبل، قررت ألا أتوقف عن ممارسة متعة تسلق أشجار النخل والزيتون الكبيرة والضخمة والتى تجاوز عمر بعضها الـ 150 عامًا وكان ذلك فى ضاحية عراضة فى مدينة طرابلس الليبية حيث كان يعمل أبى مدرسًا للغة العربية.

أدركت أن بصيص النور منطفىء لا محالة، صرت أتسلق أشجار الزيتون ليلًا حيث لا ضوء يأتى من أى مكان فى تلك المنطقة النائية آنذاك وكأنى أردت تنشيط ذاكرتى البصرية فى عتمة الليل حتى إذا حلت العتمة الأبدية لا يمنعنى مانع من هواية فى ليل أو نهار فكلاهما بات واحدًا بعد سنوات قليلة.

إلا أن باب المغامرة قد يقودك أحيانًا إلى الرعونة فتحلم بما هو مستحيل حتمًا؛ فى بداية عملى الصحفى فى جريدة العربى وكنت شابًا أرعن استهوتنى فكرة قيادة سيارة برفقة صاحبها.

وقع اختيارى على سيارة 128 لصديقى عبدالفتاح عبدالمنعم الكاتب الصحفى ومدير تحرير اليوم السابع حاليًا، لم يكن اختيارى لصاحب السيارة موفقًا -هكذا قلت حينها- وبسبب بقايا رعونة فى نفسى مازلت أقول ذلك.

ما أن قمت بتشغيل السيارة وبدأت فى التحرك بدأ عبدالفتاح فى الصراخ بدلًا من إرشادى بهدوء؛ صرخ بهيستيريا مجنونة (دوس فرامل) فما كان منى إلا الضغط بقوة على البنزين لأصطدم باكصدام سيارة فولكس قديمة كانت لمدير التحرير اللامع الأستاذ أحمد الغندور.

قوة هيكل السيارتين منع حدوث أضرار وحمدت الله أن السيارة المصدومة لصديق لكنى بالمناسبة قمت بعدها بقيادة سيارة صديقى الكاتب الصحفى محمد قنديل فى شوارع مدينة الشيخ زايد قبل أن تزدحم بسكانها، وكان قنديل هادئًا صاحب قلب قوى فانطلقت بالسيارة مسرعًا على الغيار الثالث بلغة السائقين ورجعت بالسيارة إلى الخلف وانعطفت يمينًا ويسارًا، كان اختيارى للرفيق المرشد صحيحًا.

الحقيقة لا يجوز لأعمى قيادة السيارة مهما كان يقظًا ومهما كانت أذناه قادرة على رؤية الأجسام التى تصدر أصواتًا، إنه أعمى بالنهاية ولو امتلك خبرة التعامل مع عجلة القيادة والفرامل وناقل الحركة (الفتيس) وإذا جعلته الظروف الحرجة قائدًا لسيارة فى لحظة ما، فعليه الاستعانة برفيق هادئ الأعصاب صلب المشاعر.

لكنى أصدقكم القول، أرى نفسى قائدًا ماهرًا للسيارات عندما أرى هذه الأيام عميان العقول صم الآذان يقودون سياراتهم إلى الهاوية السحيقة معتبرين أعينهم المفتوحة وعضلاتهم المفتولة أسبابًا كافية ليكونوا من الفائزين بالنجاة على طريق وعرة رغم كثرة حوادثهم واصطدامهم بصخور فى حجم الجبال، ما نفعتهم أعينهم وكانوا من الهالكين المهلكين.

لما عملت بالصحافة وأمسكت بالقلم شعرت وكأننى أمشى بعصاى البيضاء فى طريق ملغم بالحفر مليء بالحوائط والحواجز، لذا علي القبض على قلمى بعقل يقظ حتى لا يستغل أحدهم عماى فيدلس علي أو يضلنى وتعلمت أن يكون للمعلومة أكثر من مصدر وألا أتعجل حتى لا أسقط فى هوية الكذب أو السب والقذف.

أما أذناى فكانت ترشد القلم فى صياغة ما تيقن منه العقل بأسلوب صحفى جذاب ومقنع وذلك عبر خوضها غمار القراءة والإنصات لكل فنون الكتابة ولكل من يكتب قدر الاستطاعة.

السير بالعصا البيضاء يعلم الحذر والتأنى ويدرب الذاكرة ليس فقط على حفظ الشوارع والأماكن وإنما أيضًا على حفظ سلوك وردود أفعال من يشاركونك السير فى ذات الطريق راكبين أو مترجلين، لكنه يعلم أيضًا الأهم وهو إدراك استحالة ثبات الأشياء فى مكانها.

العصا البيضاء تجعلك حساسًا ليس فقط بالمشى على الدروب الصعبة وإنما أيضًا فى معاملتك للبشر، فبداخل كل إنسان مناطقه الوعرة وحفره السحيقة التى لا ينبغى الاقتراب منها وقلوب البشر متغيرة فما يمسى فيه قلب الإنسان ليس كما يصبح عليه.

العمى ليس بالأمر الهين الذى يمكن تجاوزه لكنك مضطر لخوض هذه المعركة باستمرار لتكون دائمًا على دراية بحقائق الواقع المتغير بطبيعته، لقد علمتنى العصا البيضاء أنى أصبح أعمى فقط عندما أتركها وأقود سيارة بيقين الجاهل، وعندما أظن أن ما لدى من أفكار وتصورات ومواقف حقائق مطلقة تمامًا كما الموت.

*كاتب صحفى