كان أبى يعمل فى مهنة الصيدلة ويحبها حد القداسة. كان يرى أن العمل عبادة وأنك حين تعبد الله فى عملك يكتسب العمل قدسية العبادة. إلا أن أبى كان جنديًا قضى بضع سنوات من عمره على خط القنال يناضل من أجل عودة سيناء المعشوقة. كان يرى أن هذه الفترة من حياته هى التى صنعته فى بداياته. شاب صغير يتعلم كيف يعيش، تعلم كيف أن الحياة تستحق الموت. كان الأمر أكبر من مجرد كلمات يحكيها. قضى وقتًا طويلًا فى المستشفى الميدانى تحت الأرض. هذا الوقت منعه طيلة حياته من أن يشك "حقنة" فى ذراع ابنته طوال حياته، حتى أنه كان يستميت حتى يجد البديل العلاجى لأى علاج فى "حقنة". قال إن الذى يرى الوجع لا يهديه لأحد. كان يتحدث بفخر شديد عن تضحيات تستحق البكاء، لكنه كان يبتسم وينهى حديثه بوصية تتغير صيغتها ولا يتغير معناها كل مرة. "المصريين بيحبوا مصر جدًا.. بيبان ساعة الجد جدًا". المصريون الذين منهم أبى لم يعتدِ جنودهم على دولة إطلاقًا،ولا تحرك جيشهم إلا مدافعًا عن حقه لا مهاجمًا لأرض آخر، ويشهد التاريخ بذلك فى كل فترات تاريخ مصر. كانوا لا يهدون الوجع لأحد كأبي. هى أرض الكنانة وبها سهام الدفاع عن المنطقة مكنونة محمية.
كان لى صديق لم يعد صديقًا لأسباب فنية، سيادة المستشار الذى وجد نفسه فى القوات الدولية خارج الحدود المصرية أثناء فترة خدمته، أخبرنى أن الجندى المصرى مميز عمن سواه. هو لا يعود إلا وقد حقق مهمته. هو صبور. هو يعرف كيف يتصرف. "محدش بيقول غيرنا الجملة دي: الجيش بيقولك اتصرف".. هو ذكى ولا يتجاوز حدوده. واضح فى كل ما يريد. طويل البال. الحروب الطويلة الأجل لا تنهكه ولا تخيفه. وهذا ما يظهر حين يندمج الجيش المصرى مع قوات أجنبية.
أتذكر حين أسمع هذه الشهادات الحية مقولة نابليون: "أعطونى الجيش المصرى والتركى وأنا أملك العالم" لأنه كان يعلم أن المقاتل المصرى قوى ومطيع ولا يتراجع وهو طويل النفس جدًا.
إن التاريخ المعلوم لنا من الوثائق للجيش المصرى يبلغ ستة آلاف عام خاض خلالها حوالى ٩٤٣ معركة مواجهة وجهًا لوجه ولم يسجل التاريخ خسارة له فى معركة وجهًا لوجه. فارسًا لفارس. والنقوش المصرية أسبغت على الجندى قدسية الكاهن فى كثير من الأحيان، إذ لم يكن ينتصر بغير كونه إلهًا أو مباركًا من الألهة. حتى أن غير المصريين من القادة الذين غيروا تاريخ المنطقة لم ينتصروا إلا على رأس جيش مصر وانطلاقًا من أرضها مثل صلاح الدين الأيوبي.
ستظل مصر بجندها صمام أمان لها ولمن ناله خيرها وأراد بها خيرًا. ولن أجد أكرم من قول رسول الله عليه الصلاة والسلام ختامًا لحديث عن كرام. إذ قال خير خلق الله: "ستفتح عليكم بعدى مصر فاستوصوا بقبطها خيرًا، فإن لكم منهم ذمة ورحمًا.. إذا فتح الله عز وجل عليكم مصر فاتخذوا بها جندًا كثيفًا فذلك الجند خير أجناد الأرض" فقال أبو بكر: "لمَ يا رسول الله؟" فقال خير خلق الله: "لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة". صدق الرسول الكريم وحفظ الله مصر.
د. نهلة الحوارني: أستاذة بقسم الإعلام – آداب المنصورة
آراء حرة
حكوا لى عن الجندى المصرى وقالوا
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق