تعرضت مصر فى فترة ما بين الحربين "الاستنزاف وأكتوبر" إلى ضغوط من الدول الغربية والمؤسسات المالية الدولية التى تهيمن عليها. وقد تجسدت تلك الضغوط فى التضييق على صادرات مصر إلى أسواق تلك البلدان، وأيضا فى حرمان مصر من فرصة الاقتراض من أسواق رأس المال فى البلدان الرأسمالية الكبرى،الكبرى، أو من صندوق النقد والبنك الدوليين. وكان التعامل المصرى مع تلك الظروف والضغوط قويا وملهما، حيث ركزت مصر على الاعتماد على ذاتها بصورة أساسية فى تمويل استعداداتها للمعركة، وركزت على التعاون فى مجالات التجارة والقروض والتمويل على الدول الصديقة، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتى وأيضا على الدول العربية الشقيقة. بداية عام ١٩٧٢، تم إيقاف استيراد السلع الكمالية، حيث صدر قرار بحظر استيراد تلك السلع ومن بينها الملبوسات والأقمشة الصوفية الفاخرة وأجهزة التليفزيون والراديو والسجائر والثلاجات والغسالات والسجاد الفاخر.
مقومات مصر الاقتصادية
قال الدكتور وائل النحاس، الخبير الإقتصادي، إنه منذ عام ١٩٦٧ حتى ١٩٧٣ تم حشد مقومات الاقتصاد المصري، من خلال الاعتماد الذاتى على مقومات مصر الاقتصادية حتى يتم تمويل التسليح لحرب أكتوبر. وأشار النحاس، فى تصريحات خاصة ل "البوابة"، إلى أن كل بيت مصرى كان شريكا فى تمويل حرب أكتوبر من خلال التبرعات، وكان كل بيت به شهيد فى حرب الاستنزاف وجندى على الجبهة ينتظر قيام الحرب لتحرير الأرض. وأضاف أن الأمر لم يقتصر على التمويل الذاتى وجعل المواطن شريكا به، بل كان هناك اعتماد على مساعدات بعض الدول العربية الشقيقة مثل ليبيا والسعودية وأيضا الاتحاد السوفيتى الذى لم يدخر جهدا فى دعم مصر اقتصاديا وحربيا.
١٢٠٠مصنع
رضا لاشين، الخبير الاقتصادي، أوضح أن ما ساهم فى العودة سعياً لأرض ثابتة اقتصاديا ما أنشأه الرئيس جمال عبدالناصر "١٢٠٠" مصنع فى كل الصناعات الغذائية والثقيلة والهندسية وهو ما وفر الاحتياجات الأساسية للسكان.
وأضاف لاشين فى تصريحات خاصة لـ"البوابة نيوز"، أنه عقب الانفتاح الاقتصادى العلاقات أصبح هناك تبادلا للمنتجات والسلع وهو ما سمى بالانفراجة الاقتصادية والتى تمت خلال ثلاث سنوات من حرب ٧٣.
يذكر أنه صدر القانون رقم ٤٣ لسنة ١٩٧٤ والخاص باستثمار رأس المال العربى والأجنبى والمناطق الحرة، ثم توالت بعد ذلك القوانين والتعديلات فى جميع الجبهات، لكى تتوافق مع سياسة "الانفتاح الاقتصادي".
المشروعات الصناعية الطموحة
شهد عام ١٩٧٣ عددا من المشروعات الصناعية الطموحة، على رأسها بدء إنتاج السيارة «نصر ١٢٥» بمصانع النصر للسيارات، والإعلان عن مشروعات تنموية مثل مترو الأنفاق، وتنفيذ خطوط أنابيب بترولية لنقل البترول من السويس للإسكندرية، وإنشاء ٨ محطات كهرباء بتكلفة ١٠ ملايين جنيه، للحد من مشكلات انقطاع الكهرباء.
وظهرت لأول مرة الصناعات المتوسطة والصغيرة فى عصر الرئيس السادات عقب انتصارات أكتوبر.
وتابع لاشين: ومن هنا نشأت فكرة المدن الصناعية التى حاول نظام السادات عن طريقها تعويض ضمور القطاع العام الصناعي، وبدأت مصر فى الانفتاح الاقتصادى لتعويض ما فقدته على مدى السنوات ما بين نكسة ١٩٧٦ وانتصار أكتوبر ١٩٧٣.
سياسات نقدية منقذة
وتابع "لاشين" أن عزيز صدقى رئيس الوزراء وعبدالعزيز حجازى وزير المالية قاما بعمل سياسات نقدية واقتصادية ساهمت فى إرساء القواعد عقب حرب أكتوبر.
واستطرد: كما ساهم عدد من اكتشافات البترول فى البحر الاحمر وسيناء فى انتعاشة الاقتصاد وبدأت الإيرادات من قناة السويس تعود بعد إغلاقها سنوات، مما أدى إلى توافر العملة الأجنبية ولا ننسى العائدات فى السياحة التى عادت بقوة عقب تمركز مصر سياحيا بسبب انتصارها المجيد واستقرارها الداخلى.
بحسب الهيئة العامة للاستعلامات ففى مارس عام ١٩٧٣ تم إنشاء أول وزارة مستقلة للبترول فى مصر، ونتيجة لانتصارات حرب أكتوبر المجيدة تم استعادة حقول بترول سيناء فى ١٧ نوفمبر ١٩٧٥ واُتخذ هذا اليوم عيداً للبترول من كل عام، وبدأ اتساع نطاق عمليات البحث عن البترول والغاز فى مصر، وإقدام الشركات العالمية على العمل فى مصر، وفى عام ١٩٧٦ تم إنشاء الهيئة المصرية العامة للبترول.
انخفاض مؤشرات البطالة
وعن مؤشرات البطالة أوضح لاشين أنه بسبب عودة الاستثمارات المباشرة الوطنية أو الأجنبية عقب الحرب أدى هذا إلى الاستقرار ومع الانفتاح الاقتصادى الذى فتح فرص العمل ليس فقط داخليا بل أصبح هناك طلبا للعمالة المصرية فى الدول الخليجية البحرين والسعودية والإمارات والكويت والعراق، وهذا أيضا ساعد فى توافر العملة الأجنبية.
الجبهة الاقتصادية
وفى ورقة بحثية نشرت للخبير الاقتصادى أحمد السيد النجار، بعنوان: "كيف قاتلت مصر على جبهة الاقتصاد من يونيو ١٩٦٧ إلى أكتوبر ١٩٧٣"، أوضح أن التزايد فى حصيلة الضرائب جاء من خلال الضرائب غير المباشرة والجمارك، حيث ارتفعت حصيلتهما من ٤٤٢.٥ مليون جنيه عام ٦٩/١٩٧٠ إلى نحو ٥٧٤.٧ مليون جنيه عام ١٩٧٣، وشكلت حصيلتهما نحو ٦٣.٤٪ من إجمالى حصيلة الضرائب عام ٦٩/١٩٧٠، ارتفعت إلى نحو ٦٩.١٪ فى عام ١٩٧٣.
وتابع: بالمقابل بلغت حصيلة الضرائب المباشرة نحو ٢٥٥ مليون جنيه عام ٦٩/١٩٧٠ بما يوازى ٣٦.٣٪ من إجمالى حصيلة الضرائب فى ذلك العام، ولم تزد حصيلة الضرائب المباشرة عن ٢٥٧.٥ مليون جنيه عام ١٩٧١ بما يوازى نحو ٣٠.٩٪ من إجمالى حصيلة الضرائب فى ذلك العام.
وأشار إلى تزايد إصدار البنكنوت كآلية لتمويل الإنفاق العام فيما يعرف بالتمويل بالعجز. فقد ارتفع حجم وسائل الدفع من ٣٩٧.٢ مليون جنيه فى يونيو ١٩٦٠ إلى ٧٦١.٥ مليون جنيه فى يونيو ١٩٧٠ ثم إلى ٨٦٦.٦ مليون جنيه فى يونيو ١٩٧٢ بنسبة نمو سنوية تقترب من ١٠٪ كما زادت قيمة أذون الخزانة من ١٦٤ مليون جنيه فى العام المالى ٥٩/١٩٦٠ إلى نحو ٣٧٥ مليون جنيه عام ٦٩/١٩٧٠، ثم إلى ٤٥٩ مليون جنيه فى عام ١٩٧٢.
الإنفاق الدفاعى
وعن الأداء الاقتصادى من يونيو ١٩٦٧ إلى أكتوبر ١٩٧٣ أشار النجار إلى أنه لم يكن الإنفاق الدفاعى فى مصر يتجاوز ٥.٥٪ من الناتج المحلى الإجمالى فى المتوسط السنوى خلال الفترة من ١٩٦٠/١٩٦٢ وبعد هزيمة ١٩٦٧ ارتفع إلى أضعاف هذا المعدل وبلغ فى ذروة عمليات شراء الأسلحة للاستعداد للحرب نحو ٢١.٧٪ من الناتج المحلى الإجمالى المصرى عام ١٩٧١.
واستمر قرب هذا المستوى حيث بلغ نحو ٢٠٪ من الناتج المحلى الإجمالى المصرى عام ١٩٧٣.
ويمكن القول إن خمس الناتج المحلى الإجمالى المصرى على الأقل، قد تم توجيهه لتمويل الإنفاق الدفاعى المصرى منذ حرب الاستنزاف وحتى حرب أكتوبر ١٩٧٣.
ومن البديهى أن اقتطاع ذلك الجزء الهام من الناتج المحلى الإجمالى لتمويل الإنفاق الدفاعى الضرورى للغاية من أجل معركة استعادة الأرض والكرامة، قد أثر على قدرة الاقتصاد المصرى على تمويل الاستثمارات الجديدة اللازمة لتحقيق معدلات نمو مرتفعة.
ايرادات قناة السويس
فقدت مصر إيرادات قناة السويس وجانبا مهما من إيرادات السياحة وجانب من إنتاج البترول، وأثر هذا على وضع الموازين الخارجية المصرية فى الفترة ما بين حربى ١٩٦٧، ١٩٧٣.
كما أن زيادة الواردات السلعية والخدمية المرتبطة بالإنفاق الدفاعى قد أثرت بدورها بصورة سلبية على الموازين الخارجية لمصر. وبحسب النحاس لم تكن إيرادات قناة السويس هى الأولى فى الدخل الاقتصادي، فقد سبقها فى المرتبة الأولى القطن المصرى وصادراته، والدخل الثانى كان الاستثمار الناعم وهو السينما، وعقب حرب "٥٦" كانت مصر قد استنزفت احتياطها من الذهب لكى يمرر عبدالناصر فكرة الاشتراكية عربيا.
حفلات غنائية مكوكية
وتابع النحاس: أن مطربى مصر العظماء قاموا بعمل حفلات مكوكية كان ريعها يذهب للقوات المسلحة وخزينة مصر ولا ننسى ما تعرضت له أم كلثوم من مضايقات فى فرنسا عند إحياء حفلتها هناك، وحفلات عبد الحليم حافظ بالخارج أيضا.
اتفاقيات التجارة والدفع
وفضلا عن مساهمة اتفاقيات التجارة والدفع فى دعم نظام سعر الصرف فى فترة ما بين حربى يونيو ١٩٦٧، أكتوبر ١٩٧٣، فإن تلك الاتفاقيات أدت إلى توفير حصيلة مصر من النقد الأجنبى لأغراض تمويل الواردات من دول العملات الحرة أو من الدول التى لا توجد بينها وبين مصر اتفاقيات تجارة ودفع، وبالطبع كانت تلك الواردات فى غالبيتها الساحقة ان لم تكن كلها ضرورية لدعم استعدادات مصر لخوض معركتها ضد العدو الصهيونى.
وفي السياق ذاته يقول الدكتور على الإدريسى، الخبير الاقتصادى، إنه كان من الطبيعى أن تؤثر فترة ما بعد نكسة ١٩٦٧ على الاقتصاد المصرى، خاصة أن معظم الموارد الاقتصادية تصرف على تسليح الجيش من معدات وأسلحة ومأكل ومشرب وغيرها، موضحا أن هناك عوامل عديدة أثرت على الاقتصاد بعد هزيمة ١٩٦٧، ومن بين تلك العامل انخفاض شديد فى موارد العملات الأجنبية، مما جعل هناك أزمة حقيقية فى تلك الفترة خاصة فيما يخص أعباء الإنفاق العسكرى استعدادا لحرب جديدة. وأضاف الإدريسى، فى تصريحات خاصة لـ«البوابة»، أنه بعد انتصار أكتوبر المجيد فى حرب ١٩٧٣ اختلف الاقتصاد المصرى كليا عما كان عليه فى وقت الحرب، حيث ارتفعت الصناعات المتوسطة والصغيرة فى عصر الرئيس السادات، حيث انتشر فى ذلك التوقيت إنشاء المدن الصناعية ودعم الصناعة لزيادة الإنتاج لتعويض فترة الحرب التى كانت الصناعة فيها متدنية لأعلى درجة ممكنة بسبب ظروف الحرب.
وأشار إلى أنه بدأ فى ذلك التوقيت الانفتاح الاقتصادى مع دول الجوار والدول العربية والتحويل من النظام الاشتراكى إلى نظام الرأسمالية لتعويض ما فقدته على مدى السنوات ما بين نكسة ١٩٧٦ وانتصار أكتوبر ١٩٧٣، ليصدر القانون رقم ٤٣ لسنة ١٩٧٤ الخاص باستثمار رأس المال العربى والأجنبى والمناطق الحرة.
وفى السياق نفسه، يقول الدكتور خالد الشافعى، الخبير الاقتصادى، إن الحرب كان لها دور كبير فى تراجع الاقتصاد المصرى، حيث تأثر البترول بشكل كبير بسبب فقدان آبار البترول الموجودة فى سيناء إلى جانب إغلاق قناة السويس والتى كانت مصدرا مهما لجلب العملة الصعبة لمصر فى ذلك التوقيت بالإضافة إلى ارتفاع الديون الخارجية لمصر فى وقت الحرب إلى جانب تأثر السياحة بنسب كبيرة للغاية والتى كانت تدخل لمصر أكثر من ١٠٠ مليون دولار، فضلا عن المبالغ الضخمة التى كنا ننفقها على تسليح الجيش المصرى استعدادا للحرب، مشيرا إلى أن تلك العوامل كلفت خزينة الدولة أعباء اقتصادية ضخمة للغاية.
وأضاف الشافعى فى تصريحاته لـ«البوابة نيوز»، أن هناك مكاسب عديدة اكتسبناها اقتصاديا بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ من بين تلك المكاسب: «عائدات البترول الموجودة فى البحر الأحمر وسيناء وحصول مصر على إيراداتها مرة أخرى إلى جانب ارتفاع معدلات السياحة وتوفير العملة الصعبة من السياح بعد الحرب خاصة أن منطقة جنوب سيناء تعد من المعالم السياحية التى أصبحت الآن مصدرا للسياحة تقبل عليها جميع دول العالم».
وتابع الشافعى: «خطت مصر خطوات واسعة بعد انتصار أكتوبر المجيد فى اتجاه فتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية والصناعات الوطنية، مما جعل هناك اختلافا كبيرا اقتصاديا ما قبل وبعد الحرب، خاصة أنه كان هناك دعم كبير من الدولة المصرية فى ذلك الوقت بفتح فرص أمام بناء مدن صناعية جديدة لزيادة الإنتاج وتعويض فترة الحرب».