أطروحة البابا فرنسيس لكنيسة القرن الحادي والعشرين
قبل يومين من انطلاق أعمال سينودس الكنيسة الكبير الذي بدأت تحضيراته منذ العام 2021 وحتى العام 2023 مع عقد دورته الثانية في العام 2024، قام البابا صبيحة السبت 30 سبتمبر بتسمية 21 كاردينالاً جديدا لتصبح نسبة الكرادلة الذين نالوا هذه الدرجة على يد البابا فرنسيس 73% من مجموع الكرادلة الذين لهم حق انتخاب البابا التالي للبابا الارجنتيني. غير أن رمزية الأمر ليست في النسبة المئوية التي يشكلها الكرادلة الذين نالوا قبعاتهم الحمراء على يد البابا فرنسيس بل في واقع خلفية الكرادلة الارسالية والكنسية الغير معروفة حيث غالبيتهم قادمين من دول أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وفي معظمهم غير معروفين لوسائل الاعلام الايطالية او المهتمة بالشأن الكاثوليكي كون جزء كبير منهم رهباناً واساقفة وليسوا رؤساء اساقفة كما كانت العادة قبل ان يصير خورخيه ماريو بيرجوليو بابا الكنيسة منذ عشرة سنوات.
وعليه فأن اول مكونات اطروحة البابا فرنسيس الذي يخطو نحو عامه السابع والثمانون على كرسي متحرك، هو ديناميكية اختياره للكرادلة الذين سيقودون الكنيسة خلال السنوات الخمسين القادمة. ربما البابا فرنسيس لا يشغله شخصية البابا الذي سيخلفه، بل يشغله شخصية رجال الكنيسة وخدامها في المستقبل وبصفة خاصة بدول العالم الثالث حيث حاجة الشعوب هناك إلى كنيسة ذات رجال دين يعكسون رسالة الكنيسة المنخرطة في حياة الناس وليست تلك المنشغلة بالدوائر الإدارية بالكوريا الرومانية. هذه هي شخصية رجال الدين الذين يبني عليهم البابا فرنسيس أطروحته لكنيسة المستقبل حيث رجال الدين الذين يصغون الى صوت الفقراء ليس الذين يخشون الاقتراب منهم بسبب الزحام.
بالنظر إلى إرشاده الرسولي الأول "فرح الإنجيل" الصادر في 24 نوفمبر من العام 2013 أي بعد ثمانية أشهر فقط من اختياره بابا للكنيسة الكاثوليكية، قدم البابا فرنسيس أطروحته للكنيسة التي تحدث عنها الكرادلة الذين اجتمعوا في الفاتيكان بعد استقالة البابا بنديكتوس السادس عشر لمناقشة احتياجات الكنيسة وشخصية البابا المخول إليه تلبية هذه الاحتياجات. تمحورت الكثير من المناقشات التي جرت في الثلث الأول من شهر مارس 2013 حول أهمية استعادة جماعية الكنيسة وتعزيز الروح الاخوية بين الكنائس المحلية واصلاح الكوريا الرومانية حيث لا سلطة او رفعة لكنيسة بدولة ما على كنيسة بدولة اخرى. ترجم البابا فرنسيس هذه الأمور جميعها في إرشاده الرسولي الأول "فرح الإنجيل" متحدثاً بوضوح عن الكنيسة المنطلقة مشرعة الأبواب والمدعوة دائما بيت الآب المفتوح، الكنيسة المصابة والمجروحة والملوثة جراء سيرها في طرقات العالم مع المجروحين، وليس الكنيسة السقيمة المنشغلة بكونها محور الكون المنحسرة حول هيكليات وهمية تنزع الرحمة من خدام الكنيسة وتستبدلها بحسابات بنكية وعوائد مادية تعمي أبصارهم عن رؤية جوع الجموع والنفوس للخلاص الذي يجب على الكنيسة أن تشبع الجموع له.
في العام 1986 قضى الراهب اليسوعي خورخيه ماريو بيرجوليو عدة اشهر في المانيا محاولاً العمل على إعداد أطروحته للماجستير الخاصة بدور التمييز في حل الصراعات والمتناقضات، الأطروحة التي لم يكملها بسبب عودته إلى الأرجنتين. يقر البابا فرنسيس في العام 2020 بفضل كتابات العلامة الألماني رومانو جوراديني في مساعدته على فهم كيفية إدارة مثل هذه المتناقضات وبصفة خاصة التي واجهته عندما أصبح أسقف روما في العام 2013، مع الأخذ في الاعتبار ديناميكية التمييز الروحي المستندة إلى الرياضات الروحية الاغناطية التي أسسها القديس اغناطيوس دي لويولا مؤسس الرهبانية اليسوعية التي ينتمي إليها البابا فرنسيس والتي صار خبير في تقديمها، تلك الروحانية المتصلة بالإصغاء من اجل الوصول الى تمييز نداءات الله وعمل الروح القدس في حياة الأشخاص والجماعات.
لقد شكلت روحانية الإصغاء والتمييز التي للرهبانية اليسوعية عصب المسيرة السينودسية التي يقود من خلالها قداسة البابا فرنسيس الكنيسة خلال العشرة سنوات الماضية من أجل التأسيس لكنيسة أكثر إصغاء لعمل الروح القدس من خلال الاستماع وإدماج أصوات الشعوب البعيدة عن مركزية الفاتيكان هناك حيث غابات الامازون وضواحي الفليبين وأطراف منغوليا البعيدة وعشوائيات الكونغو الديموقراطية. هكذا أراد البابا فرنسيس أن يجعل مركز الكنيسة الكاثوليكية ليس في دوائر الفاتيكان بروما بل في قلب الكنيسة الناشئة في وسط الجماعات الصغيرة كما الاثني عشر منذ عشرين قرناً حيث كان المسيح يقود تلاميذه وسط الجموع التي كانت تعاني من المرض والجوع والإقصاء واللامبالاة من جانب السلطتين الروحية والمدنية الرومانية.
يمكن تلخيص السمات الرئيسية التي بنى عليها قداسة البابا فرنسيس أطروحته لكنيسة القرن الحادي والعشرين والتي ظل يعبر عنها في مختلف عظاته ورسائله وإرشاداته و زيارته الرعوية في عشرة ممارسات وصور سعى البابا فرنسيس خلال سنوات حبريته العشرة المنقضية إلى ترسيخها في نفوس المسيحيين الكاثوليك حول العالم وبصفة خاصة في ضمائر خدام الكنيسة من رهبان وراهبات وكهنة وأساقفة ورجال دين وعلمانيين ممن يوكل اليهم القيام بتقديم ارسالية كنيسة المسيح للعالم في قرن الصراعات والمتناقضات هذا. سمات كنيسة القرن الحادي والعشرين بحسب البابا فرنسيس:
- كنيسة يصير رجال الدين فيها قدوة في خدمة النفوس والشهادة للمسيح.
- كنيسة فقيرة، رجال دين فقراء، شعب فقير.
- كنيسة بدون جمارك.
- كنيسة أبوابها مفتوحة للجميع بدون شروط او تصنيفات.
- كنيسة جامعة، سينودسية، مرسلة للجميع.
- كنيسة غير ذاتية المرجعية، تنتقد ذاتها وتصلح مساراتها بإرشاد الروح القدس.
- كنيسة لا تتبع خطط استراتيجية تنظيمية أو مؤسسية، بل تصغي لعمل الروح القدس.
- كنيسة ام تهتم بالجميع وبصفة خاصة بالصغار والضعفاء والمنبوذين والمرفوضين.
- كنيسة مستشفى ميداني وليست مباني فخمة او مكاتب مبهرة.
- كنيسة تبالي وليست كنيسة اللامبالاة.
1. كنيسة يصير فيها رجال الدين الكاثوليك فيها قدوة للآخرين في خدمة النفوس والشهادة للمسيح. حيث المسيحية باتت في حاجة مُلحة الى نماذج روحية وانسانية يتبعها المسيحيين ويتأثرون بشهادة حياتهم، لا إلى وعاظ ومتكلمين يعتلون المنابر ليلهبوا اذان سامعيهم دون أن تصل كلماتهم إلى قلوب سامعيهم. في عصر الذكاء الصناعي ومنصات التواصل الاجتماعي بات الحضور الشخصي تحدياً في سبيل تقديم نموذج حياة يلمس الآخرين لتصير الكنيسة حاضرة وسط الناس في العالم المفتقد إلى الرحمة والشفقة أكثر من حاجته إلى كلمات التعزية عبر المنصات الرقمية.
2. كنيسة فقيرة، اي رجال دين فقراء وشعب فقير. لم يكن لبطرس الرسول حسابأ بنكياً، وصار نموذج خيانة الصندوق الذي ليهوذا الاسخريوطي ، وليس أمانة الصندوق، درساً لكل رجل دين اسقفاً كان أو كاهناً يستبدل إيمانه بالمسيح بثلاثين من الفضة، في حين كان إيمان بطرس الصياد الفقير ذو الشباك الفارغة هو مصدر الغنى الذي استرد به علاقته بالمسيح وصار صخرة إيمان الكنيسة ليست ذات الاحجار الرخامية الفخمة او الايقونات المزخرفة او الصناديق الاستثمارية او المشروعات التنموية بل كنيسة فقيرة تخدم الفقراء وتعطيهم الاولوية، ليس فقط بمبدأ الاختيار التفضيلي للفقراء، بل بأسلوب حياة فقير ومحروم يتخلى فيه رجال الدين عن آبهة السيارات الفارهة والمكاتب المكيفة لينخرطوا وسط الفقراء لا ليلتقطوا الصور معهم أو يحصوهم في بيان إعانات شهرية.
3. كنيسة بدون جمارك. لا قيود على جميع البشر في كل أرجاء المعمورة من الانخراط في كنيسة المسيح، فالمسيح بذاته أزال قيود الخطيئة عمن يؤمنون به، واضعاً إنكار الذات وحمل الصليب طريقاً لتبعيته وممهداً الطريق للجميع من اجل الدخول الى رعيته دون الحصول على تراخيص او شهادات ضمان او شروط سير او اقامة اكثر مما حدده المسيح ذاته.
4. كنيسة أبوابها مفتوحة للجميع بدون شروط او تصنيفات جامعة. اذا ما صارت الكنيسة بدون جمارك فيجب أن تكون أبوابها مفتوحة دائماً لقبول الجميع، حيث لا وجود لتصنيفات أو توصيفات تميز فردا عن آخر وشعباً عن آخر وجماعة عن أخرى، باتت الكنيسة غير منغلقة على أية علامات تُعرف بها الإنسانية، حيث الانسانية في جسد المسيح عريس الكنيسة باتت مدعوة الى الدخول دون قيد او شرط. ومن ثم فالكنيسة ترحب بالجميع لا ابراراً أو خطأه أو صالحين وطالحين، بل نور المسيح الذي يشرق على الجميع ليبصروا خلاص الرب.
5. كنيسة جامعة، سينودسية، مرسلة للجميع. متى صارت ابواب الكنيسة مفتوحة للجميع صارت الكنيسة جامعة "كاثوليكية" حيث الجميع كهنة وعلمانيين يحملون رسالة الشهادة للمسيح ويتحملون رسالة تدبير شئونها معاً. وفي هذا أكد المجمع الفاتيكاني الثاني على دور العلمانيين في الكنيسة ليسوا كمستمعين أو تابعين بل مرسلين بشهادة معموديتهم لتقديم نموذج المسيح للجميع بشهادة الأعمال الصالحة و الإيمان العامل بالمحبة. كنيسة بروما غير منفصلة عن تلك التي هنا بمصر، حيث الكاثوليك بمصر لا يظنون أن البابا ووثائق المجمع الفاتيكاني والمجمع السينودسي هناك بالفاتيكان بعيداً عن واقع حياة المصريين الكاثوليك. كنيسة تعزف الحاناً منسجمة يستمع إلى نغماتها المتسقة الناس من جميع الشعوب والأجناس فيعرفون بصمتها المتسقة أينما كانوا.
6. كنيسة غير ذاتية المرجعية، تنتقد ذاتها وتصلح مساراتها بإرشاد الروح القدس. هذه هي الكنيسة التي اعتذر حبرها الأعظم يوحنا بولس الثاني عن أخطاء الحروب الصليبية، واعتذر مراراً وتكراراً حبرها الأعظم فرنسيس عن أخطاء الاعتداءات التي اقترفها رجال الدين او المرسلين الكاثوليك بحق الضعفاء والقُصَر على مدار سنوات طويلة. كنيسة لا تخجل من أن تقر بخطاياها وتصلح مساراتها تحت ارشاد الروح القدس متخذة من دروس الماضي اساساً لإصلاح برامج تكوين خدامها ومشددة الرقابة الصارمة على ارساليتهم، غير مفتخرة بتاريخها وأمجادها بل مستمدة نور ارساليتها من قوة شخص المسيح وليس رقعة اتساعها أو عدد تابعيها.
7. كنيسة لا تتبع خطط استراتيجية تنظيمية او مؤسسية، بل تصغي لعمل الروح القدس. بحسب البابا فرنسيس فالكنيسة ليست جمعية أهلية أو مؤسسة ربحية ومن ثم فرجال الدين ليسوا موظفين بل رسلا يقودهم الروح القدس للشهادة لعمل الله في العالم وهذا هو هدف الكنيسة الذي أوصى به المسيح تلاميذه بأن اذهبوا وتلمذوا جميع الامم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس... فلا خطط استراتيجية ولا أهداف مؤسسية ولا معايير جودة ولا ممارسات فُضلى ولا نهج ادارة او قيادة بشري بل تبعية الروح القدس الذي يقود الكنيسة ويرشد مؤمنيها.
8. كنيسة ام تهتم بالجميع وبصفة خاصة بالصغار والضعفاء والمنبوذين والمرفوضين. عندما صاح البابا فرنسيس "انا لا احكم على احد" أظهر حبر الكنيسة الأعظم وجه الكنيسة الرحيم الذي للام التي تهتم بجميع أبنائها على الرغم من تيههم او ابتعادهم عن حضنها، هؤلاء الرازحين تحت اعباء العالم، ممن يواجهون الرفض وينبذهم الجميع. بغض النظر عن كل الاعتبارات الدينية والتقليدية التي للناس تبقى الكنيسة بحسب البابا فرنسيس هي الأم التي تحب جميع أبنائها دون النظر إلى أفعالهم بل تهتم بالمنبوذن والمرفوضين والذين يتم اقصائهم بشكل أكبر.
9. كنيسة مستشفى ميداني وليست مباني فخمة او مكاتب مبهرة. دأب البابا فرنسيس منذ أن أصبح المدبر للجماعة الرهبانية اليسوعية بجامعة القديس مكسيمو اليسوعية بحي سان ميغيل الفقير ببيونس ايريس منذ منتصف السبعينيات حتى أصبح اسقفاً لروما من دعوة الجميع إلى السير في وسط الناس والاقتراب منهم والتحدث الى الفقراء و المطروحين على جوانب الطرقات ممن لا بهتم بهم أحد أو يحدثهم احد، فالكنيسة الحقيقية بحسب البابا بيرجوليو هي هناك في زوايا الشوارع وحيث الفقراء يحتاجون إلى مسعفين لارواحهم ونفوسهم كما لأجسادهم، وليست الكنيسة حيث المباني والمكاتب الفخمة والقاعات المخصصة لاستقبال كبار الزوار، في حين فتح البابا فرنسيس أبواب الفاتيكان العتيقة لاستقبال المشردين وأرباب الشوارع واليتامى ومن ليس لهم احداً يذكرهم.
10. كنيسة تبالي وليست كنيسة اللامبالاة. هذه هي الكنيسة التي ترعى الخليقة وتصلي وتتوسط من أجل نهاية الحرب في الشرق الاوسط وافريقيا وامريكا اللاتينية وشرق أوروبا. الكنيسة التي تحث مؤمنيها على تجنب اللامبالاة الناتجة عن الاستهلاكية المفرطة والذاتية والانانية التي تشغل الإنسان عن الاستماع والاصغاء الى نداءات الآخرين واحتياجاتهم. كنيسة تقود المسيحيين على الاستماع الى صرخة الطبيعة التي تعاني انتهاكات البشر المتكررة تجاه كنوز الارض والبحر، وبالمثل الاستماع لصرخة الفقراء والمرضى واللاجئين الذين بحاجة جميعاً الى من يقف وينظر إليهم ويقول لهم "نعم، نحن في خدمتكم، مرحبا بكم دوماً، هناك ارض ومكان وكنيسة أم تستقبلنا جميعاً."