سيلفان فيريرا مؤرخ عسكرى مهتم بتفكير شبه دائم فى فنون الحرب ويعمل بشكل رئيسى على تحليل تطور فن الحرب من عام 1850 إلى عام 1945.. ومهتم بشكل خاص بالتحول إلى العصر الصناعى وعواقبه على الجنود العسكريين المقاتلين، وهو مؤلف للعديد من مجلات التاريخ العسكرى، وهو أيضًا مصمم للألعاب الاستراتيجية ومستشار لبرنامج «ساحة المعركة» ورئيس تحرير سابق لمجلة متحف الحرب العظمى.. موقع «لو ديالوج» أجرى معه هذا الحوار.
أوضح المؤرخ العسكرى سيلفان فيريرا، مؤلف للعديد من مجلات التاريخ العسكرى، إن أوكرانيا كانت مسرحًا لعدد كبير جدًا من المعارك خلال الحرب العالمية الثانية؛ مشيرًا إلى أن الحكومة الروسية، وضعت من خلال فلاديمير بوتين، «العملية العسكرية الخاصة»، كنوع من استمرارية القتال ضد ألمانيا النازية. وقال «فيريرا»، مستشار برنامج «ساحة المعركة»، ورئيس التحرير السابق لمجلة متحف الحرب العظمى، فى حوار خاص مع موقع «لوديالوج»: إن النازيين الجدد الأوكرانيين فعلوا الشيء نفسه، منذ انقلاب الميدان فى عام 2014، من خلال تمجيد الأوكرانيين المتعاونين مع الرايخ الثالث؛ موضحًا أنه لكى نمتلك القدرة على شن حرب قوية، يجب علينا مرة أخرى العودة إلى نماذج الحرب العالمية الثانية والقيام باستخدامها والاستفادة منها. وأضاف «فيريرا»، أنه يجب الاعتراف بأن الطائرات بدون طيار والبيئة السيبرانية تطرح تحديات جديدة، لكن هنا مرة أخرى يمكن للماضى أن يكون بمثابة الأساس الذى يجب التغلب عليه بالطبع ولكن يجب أن نعتمد عليه فى بداية أى تفكير؛ مؤكدًا أن هناك دائما دروسا يمكن تعلمها- من الفترات الأقدم فى الواقع- على الرغم من التقدم التقنى. وأشار المؤرخ العسكرى سيلفان فيريرا، إلى أنه فى مجال حرب المدن، لا تزال الاتجاهات الرئيسية التى أبرزتها الحرب العالمية الثانية موجودة؛ معتبرًا أن مشكلة الإنتاج الضخم تظل قائمة، بما فى ذلك فى الولايات المتحدة. مزيد من التفاصيل فى نص الحوار التالى:
لوديالوج: أنت مؤرخ عسكرى، وتكتب سلسلة أبحاث عن الجبهة الشرقية فى الحرب العالمية الثانية.. فكيف دخلت هذا المجال؟، وما تفاصيل رحلتك العملية التى أوصلتك لهذا التخصص؟
سيلفان فيريرا: فى منتصف التسعينيات، قابلت لوران هيننجر خلال خدمتى الوطنية فى وفد الأسلحة العامة (DGA). وفى ذلك الوقت، كان هو المؤرخ الفرنسى الوحيد الذى سلط الضوء على الدور الحاسم والرائد الذى لعبه الجيش الأحمر لهزيمة القوات البرية فى الجيش الألمانى Wehrmacht. لقد كنت مهتمًا جدًا بالفعل بالحرب العالمية الثانية، خاصة حملة نورماندى، ولكن بعد لقاءاتنا اليومية الطويلة لمدة تسعة أشهر تقريبًا، قررت تكريس معظم أبحاثى على الجبهة الشرقية فى الحرب العالمية الثانية وخصائصها غير العادية.
لوديالوج: فى المعارك، وخاصة معارك الدبابات الكبرى خلال الحرب العالمية الأخيرة بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتى، ما المزايا ونقاط الضعف والاستراتيجيات لدى الجيشين؟ ولماذا انتصر السوفييت بشكل واضح فى نهاية المطاف؟ هل هذا بسبب اختلاف المعدات والتكتيكات المتبعة والدوافع عند الروس؟ ما العوامل التى صنعت الفارق على أرض الواقع؟
سيلفان فيريرا: استفادت ألمانيا النازية من سلاح مدرع – Panzerwaffe – والذى كان قادرا على توجيه ضربات تكتيكية قوية للغاية لخصومها، بما فى ذلك الجيش الأحمر. وبسبب الوسائل الصناعية ومواردها المحدودة من المواد اللازمة لبناء دباباتها، لم يمتلك هذا العنصر سوى نسبة محدودة من القوات الألمانية آنذاك.
علاوة على ذلك، ومن حيث العقيدة، قام الألمان بالدفاع، نظرًا لأن وسائلهم محدودة لتوجيه ضربات قصيرة وقوية - وقد تحدثت عنها الصحافة الأنجلوساكسونية فى ذلك الوقت تحت مصطلح «الحرب الخاطفة"- والتى كانوا يأملون فى أن تكون حاسمة، لتحويل دفة الأمور.
على العكس من ذلك، كان السوفييت، الذين كانوا فى البداية فى أزمة حقيقية بسبب قطع رءوس الضباط خلال عمليات التطهير التى قام بها ستالين فى ١٩٣٧-١٩٣٨، كما أنهم يتمتعون بموارد صناعية أكبر بكثير - فعلى سبيل المثال، تم إنتاج دبابة T-٣٤ بجميع إصداراتها بأكثر من ٥٨٠٠٠ نسخة خلال ٤ سنوات.
وكانت لديهم عقيدة أكثر تفصيلًا وابتكارًا: الفن العملياتى الذى صممه ألكسندر سفيتشين على مر السنين وتم تدريسه فى الأكاديميات العسكرية السوفيتية حتى منتصف الثلاثينيات لهزيمة الجيش الأحمر فى عام ١٩٤١، وهذا الأمر ربما يكون مستحيلًا لولا امتلاك الروس لكل هذه العناصر وحُكم على الألمان بحرب طويلة لم تكن لديهم الوسائل العقائدية والصناعية والبشرية اللازمة للفوز بها.
لوديالوج: الفن العملياتى الذى تم تطويره فى الجيش الأحمر هو تخصصك. وتظهر نتيجة بحثك أنه فى الوقت الحاضر، لم يتمكن أى شخص آخر، باستثناء الجيش الأحمر بين عامى ١٩٤٤ و١٩٤٥، من تنفيذ هذه الثورة المفاهيمية والفكرية فى واقع القتال، بمقاييس تتجاوز تصورنا كأوروبيين غربيين.. هل يمكنك أن تخبرنا عن أسباب تلك الثورة وآثارها؟
سيلفان فيريرا: منذ عام ١٩٤٥، تم تلويث تاريخ الحرب الألمانية السوفيتية بعنصر فريد على حد علمى: وهو أن المهزوم هو الذى كتب التاريخ.. فى الواقع، منذ ولادة ألمانيا الفيدرالية من جديد تحت المظلة الأمريكية لحلف شمال الأطلسى، رأينا جنرالات ألمان سابقين مثل جوديريان، وفون مانشتاين، وفون مانتوفيل، وغيرهم من الأسماء المرموقة، يكتبون - بناءً على طلب الأمريكيين- تاريخ الحرب فى الشرق.
وفى سياق الحرب الباردة، خلقوا أولًا من خلال قصصهم الأسطورة المشينة المتمثلة فى أن الفيرماخت بريء من جميع جرائم الحرب فى الشرق، ثم أرجعوا إخفاقاتهم لعاملين فقط: تدخلات هتلر غير المناسبة فى سير العمليات والتفوق العددى الساحق للسوفييت.
لا توجد كلمة واحدة عن المقارنة التى تم إجراؤها فى صيف عام ١٩٤٤ حول تفوق عقيدة الجيش الأحمر خلال هجماته المتسلسلة.. لقد التزم الأمريكيون، ومعهم جميع أعضاء حلف شمال الأطلسى، الذين هزمهم الفيرماخت بين عامى ١٩٣٩ و١٩٤٠، بهذه القصة الخيالية.
وكان علينا أن ننتظر عمل العقيد جلانتز حول الجيش الأحمر فى السبعينيات والثمانينيات حتى ندرك تلك الخدعة. ولسوء الحظ، لم تعد الحرب والاستراتيجية موضوعات رئيسية للدراسة بالنسبة للقادة الأوروبيين، ولا تزال أساطير الخمسينيات راسخة بقوة فى أذهان الناس على الرغم من انتشار أعمال جلانتز فى فرنسا من قبل لوران هيننجر وجان لوبيز، أو حتى فى الآونة الأخيرة للفن العملياتى من قبل بينويست بيهان.
لوديالوج: هل لا تزال هناك دروس يمكن تعلمها من هذه المعارك التى دارت رحاها قبل ٨٠ عامًا وبعد ما نشهده حاليًا من تطور طائرات بدون طيار وحرب سيبرانية وحروب «التكنولوجيا المتقدمة"؟
سيلفان فيريرا: نعم، هناك دائما دروس يمكن تعلمها - من الفترات الأقدم فى الواقع - على الرغم من التقدم التقنى، وخاصة فى هيكلة الوحدات حيث يتراجع تدريجيا نموذج تنظيم الوحدات القتالية فى ألوية منذ نهاية الحرب الباردة والتى أعادتها الحرب الشديدة إلى الساحة.
ومع ذلك، يجب الاعتراف بأن الطائرات بدون طيار والبيئة السيبرانية تطرح تحديات جديدة ولكن هنا مرة أخرى يمكن للماضى أن يكون بمثابة الأساس الذى يجب التغلب عليه بالطبع ولكن يجب أن نعتمد عليه فى بداية أى تفكير.
لوديالوج: هل معارك الحرب العالمية الثانية- خاصة بين القوات الألمانية والسوفيتية فى أوروبا الشرقية وعلى الأراضى الأوكرانية- كان لها أى صدى مع الأحداث الجارية ومعارك اليوم فى أوكرانيا؟
سيلفان فيريرا: نعم بالطبع، لأن أوكرانيا كانت مسرحًا لعدد كبير جدًا من المعارك خلال الحرب العالمية الثانية، خاصة حول خاركيف وتشيركاسى وحصار سيفاستوبول فى شبه جزيرة القرم. وفى منطقة خيرسون، فى صيف عام ٢٠٢٢، تم نشر مقاتلين روس فى قطاعات معينة من الجبهة فى المواقع التى احتلها الجيش الأحمر فى ١٩٤١-١٩٤٢.
حتى أن المقاتلين اليوم قاموا بتصوير شبكات الخنادق التى لا تزال مرئية واكتشفوا أشياء (حراب، رصاص، إلخ) يعود تاريخها إلى الحرب الوطنية العظمى. علاوة على ذلك، وبصورة رمزية، وضعت الحكومة الروسية، من خلال فلاديمير بوتين، «العملية العسكرية الخاصة»، كنوع من استمرارية القتال ضد ألمانيا النازية.
من جانبهم، فعل النازيون الجدد الأوكرانيون الشيء نفسه منذ انقلاب الميدان فى عام ٢٠١٤ من خلال تمجيد الأوكرانيين المتعاونين مع الرايخ الثالث. وسواء كنا نتفق مع عمليات الاستعادة السياسية للتاريخ هذه أم لا، فإنها تعمل وتشكل عقلية بعض المقاتلين والسكان.
لوديالوج: باعتبارك مؤرخًا عسكريًا، فإنك تقوم أيضًا بتحليل الصراعات المعاصرة كما أصدرت أيضًا كتابًا عن معركة ماريوبول (٢٠٢٢) لشرح النصر الروسى فى مايو ٢٠٢٢.. كيف يساعدك تخصصك فى معارك الحرب العالمية الثانية على فهم وتحليل القتال فى أوكرانيا اليوم؟ وما شعور الجنود الذين يخوضون الحرب حاليا؟
سيلفان فيريرا: على الرغم من الحرب، يتقاسم الجيش الأوكرانى والجيش الروسى نفس التراث العسكرى للجيش الأحمر، المعروف على وجه الخصوص بخبرته فى القتال فى البيئات الحضرية من معركة ستالينجراد إلى الاستيلاء على برلين. ولذلك فإن معرفة هذه المراجع أمر إلزامى لفهم وتحليل القتال اليوم على الرغم من بعض التقدم التقنى.
وفى مجال حرب المدن، لا تزال الاتجاهات الرئيسية التى أبرزتها الحرب العالمية الثانية موجودة. وأنا بصدد كتابة دراسة حول هذا الموضوع ستظهر فى عدد خاص من مجلة «Ligne de Front» فى نوفمبر المقبل، وأستطيع أن أقول لكم إن جزءا كبيرا من العناصر التكتيكية والبشرية والمذهبية فى العمل خلال معركتى ماريوبول وباخموت، تعود أصولها إلى الحرب العالمية الثانية ولا سيما فى المعارك الدفاعية والهجومية التى نفذها السوفييت بنجاح أوفشل.
لوديالوج: تحدث الرئيس إيمانويل ماكرون عن الاستعداد الأوروبى لـ«حرب شديدة». ما تقييمك لجيوش فرنسا وأوروبا وحتى حلف شمال الأطلسى فى الوقت الحالى، فى وقت يشعر فيه الأمريكيون أنفسهم بالقلق على وضع قواتهم؟
سيلفان فيريرا: يعتبر هذا النهج ضربًا من الخيال لأنه، باستثناء قطاعات معينة من الصناعة العسكرية الأمريكية، فى بداية الأمر، قامت جميع الدول الأوروبية بإفراغ لم يعد الأوروبيون، بما فى ذلك الفرنسيون، يملكون أدوات صناعية قادرة على تلبية احتياجات حرب شديدة الوطيس.
مخزوناتها، بما فى ذلك الذخيرة، لصالح كييف لمدة ١٨ شهرًا، لكنها بالإضافة إلى ذلك لم تستأنف إنتاج المعدات والذخيرة. علاوة على ذلك، ينتظر الكثيرون بخنوع أن يفرغوا مخزونهم الذى يعود تاريخه إلى التسعينيات ليشتروا بأسعار مرتفعة أحدث موديلات المجمع الصناعى العسكرى الأمريكى.
ولكن هنا مرة أخرى؛ تظل مشكلة الإنتاج الضخم قائمة، بما فى ذلك فى الولايات المتحدة. ولكى نمتلك القدرة على شن حرب قوية، يجب علينا مرة أخرى العودة إلى نماذج الحرب العالمية الثانية والقيام باستخدامها والاستفادة منها وحتى الآن لم يسلك أحد هذا المسار فى أوروبا باستثناء روسيا.