الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

جوليان أوبير يكتب: أزمة الهجرة.. مفهوم الإنجيل وفقًا للقديس فرنسيس.. والدراما الإنسانية فى البحر المتوسط

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تهدف الزيارة التى قام بها البابا فرنسيس فى ٢٣ سبتمبر ٢٠٢٣ إلى مرسيليا، التى استضافت اجتماعات البحر المتوسط فى ذلك الأسبوع، إلى زيادة الوعى حول الدراما الإنسانية التى تحدث فى البحر المتوسط. ففى أقل من عقد من الزمن، فقد ما يقرب من ٢٨ ألف مهاجر حياتهم أثناء عبور البحر المتوسط. ومن الممكن أن يرتفع هذا الرقم لأكثر من ذلك بكثير. ومنذ يناير ٢٠٢٣، فقد أكثر من ٢٠٩٥ شخصًا حياتهم بسبب الهجرة، ذلك الأمر الذى أصبح الأكثر خطورة فى العالم.
وكان لكلمات البابا، التى لم يخففها، الفضل فى إثارة رد فعل الطبقة السياسية الفرنسية. وقبل التعليق على كلمات البابا، فإن حديثه يستحق أن نقوم بنقله بأمانة، من خلال الجمع بين النصوص البابوية العديدة التى تخللت هذه الزيارة.
إذا اختار قداسة البابا أن يأتى إلى مرسيليا (وليس «إلى فرنسا")، فهذا يتعلق بالرمز القوى الذى تمثله هذه المدينة المختلطة، فإنها تعتبر «بوابة الميناء» الحقيقية الذى يمكن أن يكون مفتوحًا أومغلقًا أمام المهاجرين. وليس من الغريب أن يشعر البابا ويقول إنه كان من الضرورى الترحيب بهؤلاء الذين لقوا حتفهم غرقا، وذلك لأنهم «لم يأتوا للغزو» بل «جاءوا طلبًا للضيافة وبحثا عن الحياة». وفى رأيه، فإن البحر المتوسط هو نسخة مصغرة من العالم الحالى بشواطئه «حيث يسود البذخ والنزعة الاستهلاكية والهدر من جهة، والفقر وعدم الاستقرار من جهة أخرى».
ويجب الترحيب بهم وليس رفضهم لأن هذا الأمر هو مسئولية جماعية لأوروبا لكى تتجنب «غرق الحضارة» ويرى البابا فرانسيس أن الإغلاق هو بمثابة «عودة إلى الماضى، ونوع من التراجع بدلا من التقدم على طريق التاريخ». ومع ذلك، فهذه ليست إشارة إلى الثلاثينيات، بل هى استحضار لتجارة الرقيق. وهكذا سلط البابا الضوء على الحالات الخطيرة التى أُعيد فيها المهاجرون مثل «كرة الطاولة». بالنسبة للبابا فرانسيس، فإن مأساة المهاجرين هى أنهم إذا تم إعادتهم، فإنهم يقعون فى أيدى المتاجرين بالبشر القساة.
لهذا السبب يأتى البابا فرنسيس إلى مغزى رسالته: «فى مواجهة آفة استغلال البشر الرهيبة، لا يكمن أن يكون الحل فى الرفض أو الطرد بل فى إيجاد أكثر من طريقة مشروعة وقانونية لدخولهم وفقا لإمكانيات كل جهة وضمان دخول منتظم ومستدام بفضل الترحيب العادل من قبل القارة الأوروبية، وذلك فى إطار التعاون مع البلدان التى يأتى منها المهاجرون. إن القول «كفى» يعنى، على العكس من ذلك، غض الطرف. إن محاولة «إنقاذ نفسك» الآن ستتحول إلى مأساة غدًا». ومن خلال استحضار «إمكانات الجميع»، والإصرار على «وجود الدخول القانونى» للمهاجرين، قام فرانسوا بإدخال فارق بسيطً فى ملاحظاته، حتى أنه ذهب إلى حد ذكر حلول بديلة للاستقبال: «إذا لم تتمكن من إدماج المهاجر فى بلدك، فينبغى عليك أن تدعمه وتعمل على إدماجه فى بلده». ويعتبر ذلك أمرا مثيرا للغاية ولكنه غير قابل للتطبيق عمليا (كيف يمكن لفرنسا أن تساعد النيجيرى على الاندماج بشكل أفضل فى نيجيريا؟).
بالنسبة للبابا، لا يتعلق الأمر بالقيام بذلك بإسم الحق فى تقاسم الثروة، بل فى نطاق احترام كرامة الإنسان: «لا يمكن أن يكون المعيار الرئيسى هو الحفاظ على رفاهيتهم، بل الحفاظ على الكرامة الإنسانية. يجب ألا نعتبر أولئك الذين لجأوا إلينا عبئًا: إذا اعتبرناهم إخوة، فسيظهرون لنا قبل كل شيء كهدايا».
ومع ذلك، فقد غامر البابا فرانسوا على أرضية أكثر انزلاقا حيث تحدث من بلد - ألا وهى فرنسا - التى منذ عهد نابليون «لا تعطى حق التجنيس لأى شخص إذا لم يثبت استيعابه واندماجه فى المجتمع الفرنسى، ولا سيما من خلال المعرفة الكافية للغة الفرنسية ومن خلال معرفة الحقوق والواجبات التى تمنحها الجنسية الفرنسية.» (المادة ٢١-٢٤ من القانون المدني) بالإضافة إلى أن مرسيليا هى مدينة مركبة ومتعددة ولا تعد انعكاسًا دقيقًا للطريقة التى تعيش بها البلاد.
لكن البابا فرنسيس رفض منطق الاستيعاب وأصر على الاندماج. وأكد قائلا: «بالتأكيد كلنا نرى صعوبات استقبال المهاجرين. ولكن يجب الترحيب بالمهاجرين وحمايتهم ومرافقتهم وتعزيزهم وإدماجهم. وأصر أن هناك فارق بسيط: «الترحيب والدعم والترويج والتكامل: هذا هوالأسلوب الذى يجب إتباعه. صحيح أنه ليس من السهل امتلاك هذا الأسلوب أودمج أشخاص غير متوقع قدومهم».
التكامل مقابل الاستيعاب. هذه ليست زلة لسان أومعرفة سيئة باللغة الفرنسية. فمن وجهة النظر النظرية، يشير مفهوم الاستيعاب إلى التخلى التام عن ثقافة المهاجر الأصلية فى حين أن مصطلح الاندماج يعترف بإمكانية البقاء مرتبطًا بثقافة الأصل من خلال استيعاب معايير سلوك المجتمع. وقد ذكر البابا بوضوح تفضيله للاندماج بدلًا من الاستيعاب: فالاندماج، حتى بالنسبة للمهاجرين، أمر صعب، ولكنه بعيد المدى: فهو يهيئ المستقبل الذى سنعيشه معا سواء أردنا ذلك أم لا؛ الاستيعاب الذى لا يراعى الاختلافات ويبقى جامدًا فى نماذجه، يجعل الفكرة تنتصر على الواقع ويساوم على المستقبل من خلال زيادة المسافات والعزلة وإثارة العداء والتعصب.
فمن خلال انتقاده طوعا أو كرها لثقافة الاستيعاب الجمهورى الفرنسية، ارتكب البابا فرانسيس خطأ ثلاثيًا:
الأول هو الدخول فى المجال السياسى. وهو أمر يتعلق بالقانون والديمقراطية، خاصة على أرض بلد أقام جدارًا - للعلمانية - بين الدينى والدنيوى. وبطبيعة الحال، فإن فرانسيس لا يتحدث على وجه التحديد إلى الفرنسيين، بل إلى كل الشعوب الأوروبية. وبطبيعة الحال، يفعل ذلك من مرسيليا، ويصر على أن هذه ليست زيارة «إلى فرنسا». تظل الحقيقة أن مرسيليا هى مدينة فرنسية وسكانها هم فرنسيون إلى حد كبير.
الثانى هو تطبيق نهج أمريكا اللاتينية فى التعامل مع أوروبا خاصة أن أمريكا الجنوبية، كما شرحت فى عامود سابق فى الحوار، يُنظر إليها على أنها «واقع جغرافى مكون من جزيئات صغيرة ولكن لا يمكن وصف محتواياته». وتكمن قوتها فى أن تنوعها قد جعل من الممكن أن تتقارب فيما بينها من خلال تركيب قادر بمختلف الطرق على خلق قصة مشتركة. إن أمريكا الجنوبية لم تشهد الغزوات العربية ولا الحروب الصليبية ولا حروب الاسترداد، ولا الحروب الدينية لأنها مسيحية بنسبة ٩٥٪. وبفضل هذه القارة تظل الكاثوليكية هى الديانة الرائدة فى العالم بمساواة الإسلام (١.٤ مليار شخص فى عام ١٩٩٥).


أما الثالث فهو التجاهل التام للتحدى الثقافى والدينى المرتبط بالهجرة من دول جنوب الصحراء الكبرى والأفارقة، ويبدوكما لوكان عاملًا ثانويًا. أما البابا السابق، الذى كان أوروبيًا للغاية، فقد كان له نهج مختلف جوهريًا. وفى خطابه الذى ألقاه فى ريجنسبورج، والذى كان دقيقًا للغاية، سلط الضوء على الاختلافات بين ضفتى البحر المتوسط: «فى العالم الغربى، يهيمن الرأى الذى يقول بأن العقل الوضعى وأشكال الفلسفة التى تقوم عليه هى الوحيدة التى يجب الاعتماد عليها. ولكن على وجه التحديد، فإن هذا الاستبعاد الإلهى من عالمية العقل يُنظر إليه من قبل الثقافات الدينية العميقة فى العالم على أنه نوع من الازدراء لمعتقداتهم. إن العقل الذى يصم الآذان ويدفع الأديان إلى عالم الثقافات الفرعية لا يصلح لحوار الثقافات. إن مسألة الحرية الفردية فى المسائل الدينية تشكل على وجه التحديد حجر عثرة فى فرنسا، حيث يعتبر الرأى العام أن ارتداء الحجاب هو بمثابة خضوع المرأة للرجل.
ويرتبط السبب وراء إحجام الرأى العام فى فرنسا عن استقبال الأجانب القادمين من أفريقيا بالأزمة فى فكرة الاستيعاب. واليوم لدينا ٢.٥ مليون شخص أميين، و٤.١ مليون شخص يعانون من الفقر أوعدم إيجاد المسكن. كما أن معدل البطالة بين المهاجرين الأفارقة يعتبر أعلى من نظيره بين المهاجرين الأوروبيين (١٦٪ بدلًا من ٦٪).
ويضاف إلى هذه المشاكل الموضوعية مشاكل انعدام الأمن المرتبطة بضعف الاندماج (انظر استاد فرنسا، مشهد العنف ضد المشجعين الإنجليز على يد شباب منحرفين من الأحياء الصعبة، أوأعمال الشغب الأخيرة التى تم تسجيلها هذا العام)، ومشاكل التطرف الدينى، بل وحتى الإرهاب. ومن بين الهجمات الـ ٢٢ الناجحة التى أدخلت البلاد فى حالة حداد، كان هناك ١٣ أجنبيًا و٢٠ فرنسيًا، بما فى ذلك حاملوالجنسية ومزدوجى الجنسية. وبالتالى فإن الأجانب يمثلون ٣٩٪ من منفذى هذه الهجمات. وقد شاركوا بشكل خاص فى هجمات نوفمبر ٢٠١٥ (٤ أجانب من بين كوماندوز من ١٠ أشخاص) ومنذ عام ٢٠٢٠، تم ارتكاب ٥ هجمات من قبل أجانب و٢ من قبل فرنسيين.
وأخيرا، تتطور الجماعة الإسلامية إضافة إلى أن الجدل الدائر حول ارتداء العباءات فى المدارس ما هو إلا القمة الظاهرة من الجبل الجليدى ومن خلال التحايل على هذه الحقيقة، طرح البابا فرنسيس مشكلة أخلاقية على الطاولة دون توفير مفاتيح التفكير فى كيفية مواجهة التحدى الأساسي!.
 

معلومات عن الكاتب:
جوليان أوبير.. سياسى فرنسى.. انتخب نائبًا عن الجمهوريين خلال الانتخابات التشريعية لعام 2012، ثم أعيد انتخابه عام 2017.. ولم يوفق فى انتخابات 2022.. وهو حاليًا نائب رئيس الحزب الجمهورى ورئيس الحركة الشعبية «أوزيه لافرانس».. يقدم، فى مقاله، تحليلًا متكاملًا حول أزمة الهجرة التى تواجهها أوروبا من واقع تعليقه على زيارة البابا فرنسيس لمدينة مارسيليا الفرنسية.