كلما وصلنى كتاب من محمود عوض، أبدأ بقراءة الصفحة الأخيرة من الغلاف: الطبعة كام! وعندما تلقيت «أفكار ضد الرصاص» فى سلسلة «اقرأ»، تبين لى أنها الطبعة الخامسة، فى حين أن نسخة «دار الشروق» من الكتاب نفسه بلغت الطبعة التاسعة.. هل يحق للكاتب أن يعرض لمؤلَف فى طبعته الحادية عشرة؟ يخصص محمود عوض فصلا للقاء صحافى مع طه حسين. والمحادثة فى الصحافة عمل سهل وفن بالغ الصعوبة. البعض يحمل مسجلًا ويقول للضيف: هات.. حدثنا يا أخا العرب. والبعض يدعى أنه فى مستوى ضيفه أو أهم، ولذلك بدل أن يطرح السؤال يقول: قلت له وقال لي. وهو يتحدث أكثر مما يصغى. وهناك من يذهب إلى موضوعه فى تواضع وعمق ومعه أبحاثه وفروض اللقاء. ولقاء الصحافى الناشئ محمود عوض مع عميد الأدب العربي، كان نوعًا من التاريخ التسجيلي. إحاطة بكل الظروف وكل الناس وكل ما له علاقة بالقضايا المثارة ضد طه حسين. لكن أهم ما فى اللقاء هو كيف يصف الصحافى الشاب هذا الحضور الوقور. لا يدهشه فيه طربوشه أو نظارته السوداء التاريخية ولا أسلوبه فى الحديث. يدهشه، أيما دهشة، أن طه حسين «مصري». مصرى عادى وابن بلد: «إن طه حسين ـ حينما تراه ـ لا تتذكر سوى كلمة واحدة. مصري. إن وجهه يبدو مصريًا ولا شيء آخر. لا شيء خارقًا فى ملامحه، غير نظارته السوداء ورأسه المتجه دومًا إلى الامام، إلى المجهول. وتستطيع أن تتخيل طه حسين ـ هذا الرجل المتوسط طولًا والنحيف جسمًا ـ بشعره الأبيض وعظامه البارزة، تستطيع أن تتخيله مدرسًا فى الابتدائى أو موظفًا فى الحكومة، أو إمامًا فى مسجد. إنه ليس أكثر من مصرى ـ نموذج مجسم للشخصية المصرية التى تقابلها فى الطريق ـ إذا قابلته فى الطريق لن يستوقفك. فقط عندما يبدأ بالتحدث يبدأ طه حسين فى التميز والتأثر».
يتحول اللقاء مع طه حسين إلى جزء من تاريخ مصر. يروى عميد الأدب أنه عندما صُرِفَ من وزارة المعارف كان معه ستة جنيهات. وأن سعد زغلول قال عنه «كتاباته مثل كتابات البقر». وعندما وقفت هذه السلطة انصرف من حوله الجميع ولم يعد يجرؤ أحد على تحيته. فقط شقيقه ساعده وساعد عائلته على تحمل متطلبات الحياة. وعندما ذهب إلى القضاء يطالب بتعويضاته، رفض القضاء قبول الدعوى. لكن جمعًا قليلًا من رجال النخبة عاد فوقف معه، وكذلك بعض الحكومة، وعاد طه حسين.. موظفًا فى الحكومة!.