أنا أنتمي إلى هذه الأجيال "اللي ماعملتش حاجة".. لكنني أدعي أنني ممن رحم ربي منهم. ويمكنكم أن تتهمونني بالكذب. فأنا أتقبل رأيكم كما أدعوكم لتقبل رأيي. إن تلك الأجيال التي أقصدها هي الأجيال التي تتكون من مواليد عقد الثمانينات حتى اليوم (اي مواليد الثمانينيات والتسعينيات والألفينيات". أجيال لا ذنب لها سوى أن أهلوها ذاقوا أوجاعًا أرادوا ألا يروها في أبنائهم مرة أخرى. وربما أرادوا أن يروا الحياة التي يريدون في أبنائهم بعد أن لم يروها في أنفسهم. وربما جاء الأمر كله دون تخطيط على طريقة "حد يلاقي دلع وما يتدلعش؟!".
نحن أجيال تحارب كي تفعل شيئًا لكنها في أعماقها لا تريد أن تفعل شيئًا، إذ أن كل شيء مفعول في الحقيقة سلفًا. في هذا الصدد، دار حوار بيني وبين سيدة لطيفة تبدو في العقد السادس من العمر. تستعد لزفاف ابنها. كنا في انتظار دورينا في صالة انتظار Beauty Centre. لفت نظري أنها مبتسمة طوال الوقت. وهو أمر أحببته جدًا، لأنني بدوري مبتسمة معظم الوقت. قالت: "حقيقي جوزي صعبان عليا.. ده تالت ولد يجوزه في خمس سنين" قلت لها: "هما مش بيشتغلوا؟" قالت: "هو يعني جوزي سمير هيسيبهم من غير ما يشغلهم شغلانات على ذوقه. ربنا يحميهم.. بس برضو هو ربنا يبارك لنا فيه ماجالوش قلب ياخد دم قلبهم. فلوسهم ليهم مش لجوازهم" قلت: "هما لو ما صرفوش على نفسهم يبقى بيشتغلوا ليه؟ عشان يحسوا انهم ليهم قيمة وبيعملوا حاجة في الدنيا" قالت: "أبوهم حسه في الدنيا.. يبقى مافيش داعي يعملوا هما حاجة.. أنا وهو متفقين على كده".. علمت من السيدة اللطيفة "مدام آمال".. أن زوجها أضنته الحياة وعمل في أكثر من أربعة وظائف مختلفة "Shift Career" داخل مصر وخارجها طوال عقدين من الزمان.. حتى أنها تعتقد أن إصابته بالسكر والضغط معًا جاءت من أجل حبه لأولاده وقلقه عليهم.. حين ذكرت هذه المعلومة الأخيرة لم أستطع منع نفسي من تفحص ملابس السيدة البسيطة الأنيقة كعادة السيدات من هذه الفترة.. حتى أن قطع القماش كانت أقل في حداثة عهدهم بالحياة. كان كل شيء بسيطًا وقادرًا على أن يحبك حتى أنك تعمل من أجله دون أن تشعر بالاضطهاد. لم يكن أحد يسمع الجملة الغريبة التي سمعتها بين أقراني "بابا لازم يعمللي كده".. الحق أن أبي وأمي لم يفعلا لي ذلك، وكانت أمي تقول في هدوء: "لما احنا هنعملك ده انتِ لازمتك إيه أصلًا؟!" وكأن أمي تختصر مأساة يعاني منها الكثيرون في سؤال.
استطاعت هذه الأجيال "اللي ما عملتش حاجة" أن تجد بيتًا في "عمارة بابا" ووجبة عائلية فاخرة لما لا يقل عن أربعة أيام في الأسبوع في "شقة الدور الأول عند بابا" وليومين في "بيت ماما التانية "الحماة". يعملون في وظائف أحلام بابا وماما أو ما قدروا على إيصالهم له. يقودون سيارات بابا وينعمون بعطايا ماما الأسبوعية اللذيذة تارة والمالية أخرى. لا يجهدون أنفسهم كثيرًا في الاعتراض، إذ لا يعلمون على ماذا يعترضون، كما وأن وقت الاعتراض مضى. إذ صار كل منهم مجبرًا على دفع عجلة حياة زوجة وربما أبناء بناء على الـ Supply العائلي الممتد بسخاء. معالم الشخصيات صارت مكررة وكأن هناك كربون نسخ في مستشفيات الولادة يبتلعه الرضيع قبل أول رشفة سرسوب. لأن ما يختبرونه في الحياة متشابهًا جدًا. كانت الأجيال في سبعينيات القرن الماضي تحلم بالسفر في أجازة الصيف في ظروف شاقة يعمل فيها الشاب أو الفتاة حتى يؤمن قوت يومه أو يومها، وأجيال الثمانينات فما فوق تتساءل لما تجهد نفسها كل هذا الجهد من أجل سفر لن تجد فيها مكانًا مكيفًا أو مواصلات مناسبة!
أنا لا أعمم بالطبع هذا الكلام على كل الأجيال التي أنتجتها الثمانينات فما بعدها، لكن نظرة واحدة لمعارف كل منا ستجعلك تجيب على أسئلة مقار إقامة وفرص عمل وأرصدة بنوك هذه الأجيال، هذه النظرة ستجعلك تدرك ما أعنيه. فالأمر لا يعمم على جميع أفراد هذه الأجيال لكن بلا شك ينسحب على شريحة منها ندرك حجمها جميعًا. لسنا أجيال محظوظة، ولا ناقة لنا ولا جمل في معظم ما نعانيه، لكن الأسوأ أننا لن نترك خلفنا ناقة ولا جمل لمن يأتي بعدنا في معظم الأحوال. ربما تكون ومضة الحظ الوحيدة التي نتشاك فيها جميعًا أننا تطبيق لمقولة العرب: "ألا تفعل شيئًا خير من أن تكون مؤذيًا".
*أستاذة الإعلام – كلية الآداب جامعة المنصورة