قرأت كتبًا كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروايات من شخص لشخص، وصحائح وحكايات عن السير، وعرفت من الروايات ما دُسَّ في بعضها وعرف بالإسرائيليات، لم يمس ذلك التضارب، ولم يجرؤ على أن يتعاظم في قلبي مع ما عرفته عن النبي من حديث أمي؛ لذا أقول بملء الفم والقلب: إنني عرفت النبي صلى الله عليه وسلم وأحببته من تلك الحكايات التي كانت ترويها لنا أمي وهي تهدهدنا حتى ننام.
لا أعرف حتى الآن عن مَن نَقَلت أمي تلك الحكايات، أو إلى أي صحيح استندت غير صحيح قلبها، فلا شيخ جامع، ولا عالِمًا عرفته، وقرأت له؛ فهي لا تجيد الكتابة والقراءة ولكنها ماهرة في الحمد والتسبيح والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم منذ وعيتها.
كانت حكايات أمي تبدأ بعد صلاة العشاء حين كانت تصمت الشوارع، وتغلق البيوت أبوابها، وتتجمع الأسر حول رواكي النار، ونلتف نحن حول أمي التي تبدأ حديثها بالصلاة على النبي بديباجة خاصة بها تكررها في كل ليلة ثم تنشد:
اتمنى عبد المطلب ربه عطاه
اتمنى عشرة من الولاد
حقق مناه
كان أجمل العشرة الغلام عبد الإله
ثم تحكي كيف أجرى عبد المطلب القرعة ليقدم أحد أبنائه فداءً، فتقع القرعة على عبد الله، فيُعيدها جد النبي فتقع عليه، حتى فداه بالإبل.
كنا ننتقل بأذهاننا وقلوبنا مع تفاصيل الحكاية وكأننا نرى مشاهد حية تتحرك.. شرحت لنا تفاصيل زواج عبد الله من آمنة.. وبُشرى حملها بالنبي، وكأن أمي حفظت الكلمات قبل أن تكتب:
يا آمنة بشراكِ.. سبحان من أعطاكِ
لحملك بمحمد.. رب السما هناكِ
بالمصطفى سعدك غلب.. لما حملتِ في رجب
ولم تر منه تعب.. هذا نبي زاكي
شعبان شهر ثاني.. والنور منه باني
بذا النبي العدناني.. فالسعد قد والاكِ
رمضان ثالث شهرك.. يا آمنة يا سعدك
الله يجمع شملك.. بسيد الأملاكي
شوال شهر رابع.. والنور منه ساطع
ولد الحبيب راكع.. ساجد إلى مولاكي
ذو القعدة أتاك بالوفا.. وشرّفك بالمصطفى
وربّك عنك عفا.. وخصّك وحماك
ذو الحجَّة سادس شهرك.. لما حملت بالزّاكي
يا آمنة يا بختك.. وربك علاّك
جاء المحرّم بالهناء.. والقرب منه قد دنا
وما ترين منه عنا.. هذا نبي زاكي
وفي صفر شاع الخبر.. بذي النبي المفتخر
لأجله انشق القمر.. أضاءت لك دنياكي
وفي ربيع الأول.. ولد الحبيب المرسل
يا آمنة تأملي فضل الذي أعطاكي
ولد الحبيب مختونا
مكحلا ومدهونا وحاجباه مقرونا ونوره كساكي
هذا نبي الأمة.. قد جاءنا بالرّحمة
نسكن بفضله الجنّة رغما على أعداك
يا رب يا غفّار.. اغفر لذي الحضّار بالسّادة الأبرار
والهاشمي الزّاكي صلى عليه الباري
وآله الأخيار ما سار ركب الساري.. وداره الأملاكي
رأينا جيش أبرهة وهو يتساقط ونحن نحفظ "ألم تر كيف فعل ربك لأصحاب الفيل"، عقدنا مقارنة في أذهاننا بين أبرهة والنجاشي نتساءل عن اختلاف الطرح مع أن الأرض واحدة وعرفنا بعدما كبرنا أنه لا معنى لارتباط دون فكرة وإيمان، فأبو جهل كان عم النبي فلا أواصر سوى المحبة، رأينا الملائكة وهي تشق صدر النبي "ص" وتفتح قلبه وتغسله، ونتبع أطيط نعله بين دروب قريش، وشاهدنا دهشة حليمة السعدية من فيض بركاته، وتلك السحابة التي أظلته في القيظ، وكيف أتاه الوحي وفزعه وكيف دثرته خديجة، وحديث ورقة بن نوفل عنه، وقبضة يده على صدر عمر بن الخطاب في دار ابن الأرقم، وخروجه بين حمزة وعمر وهما يؤمان أول صفين في الإسلام، عشنا معه تفاصيل عام الحزن وخرجنا بأرواحنا معه إلى الطائف وبكينا لما أصابه ورددنا خلفه:
"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس.. أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري؟، إن لم تكن غضبانًا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".
كنا معلقين في وضين الناقة في الهجرة وسمعنا حديثه لصاحبه "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا"، سبقته أفئدتنا إلى يثرب وكنا ضمن وفود المستقبلين حتى أننا أعدنا المشهد على مسرح المدرسة كل عام وأنشدنا جميعًا مع أهل يثرب:
طلع الـبدر عليـنا مـن ثنيات الوداع
وجب الشكـر عليـنا مـا دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطـاع
جئت شرفت المديـنة مرحبًا يـا خير داع
قد لبثنا ثوبَ عزّ بعد تمزيق الرِّقاع
ربَّنا صلِّ علي من حلَّ في خير البقاعِ
***
حملنا الطوب اللبن لبناء مسجد قباء، وشهدنا تآلف قلوب الأوس والخزرج، عشنا الغزوات بكل تفاصيلها من بدر حتى فتح مكة حفظنا قصص استشهاد عبيدة وعمير وذو الشمالين ورافع وحمزة وخنيس وشماس وغيرهم.. حفظنا عن ظهر قلب حكايات كل الشهداء وأحاديث النبي عنهم، وحفظنا كل آية مع سبب نزولها.. عشنا حالات القلق والتثبت ولحظات الفرح والنصر وتنفيذ الوعد، عشنا السراء والضراء وليال الأمل والصبر وشعور الرضا والجبر.
كانت أمي تضفر الحكايات وتلضمها بخيط من الشوق كمسبحة في يدها لا تمل من عدها، كنا ننعس نسافر في الحلم إلى حيث حكت، بكينا كثير في ليلة حادث الإفك ورأينا وجه ابن سلول السئ، وابتهجنا بنزول الوحي لتبرأة عائشة، أحببنا الحب من حب النبي لها، عرفنا صفائه ونقائه وطهارته وجلاله في القلوب، وذقنا مرارة الفقد مع كل حبيب يودعه النبي لكننا أدركنا ان هذه سنة الحياة وان الطيبين لهم لقاء هناك فحرصنا أن تظل قلوبنا على فطرتها كما هي فأي شائبة قد تحرمنا لقاء النبي وأصحابه،
كل شئ طبع في أذهاننا حواره لفاطمة ورده عقد خديجة لزينب وحنانه مع رقية وأم كلثوم وحزنه على إبراهيم، وفرحه بالحسن والحسين.. ابتسامه وحلمه ورحمته وعظمته وتواضعه.. عشنا حياته إنسانا عظيما ونبيا، بكيناه وما ودعناه حينما اختار لقاء ربه.. عشنا كل هذا قبل أن نقرأه في الكتب، عشناه بكل تفاصيله فبات مكتوبًا في قلوبنا وأرواحنا دون تحريف ودون التباس فعشنا بفطرة سليمة ولم نقع فريسة لأي فكر مغلوط لأننا عرفنا النبي ورأيناه بقلوب أمهاتنا لا بقلوب غيرهن.. صلاة وسلاما عليك يا سيدي يا رسول الله.