قدرنا كمصريين أن نولد فى بلد يزخر بالحضارة فى كل جنباته، وهو ما جعلنا دائمًا نزهو ونفتخر بتاريخنا العريق المتنوع الذى لا مثيل له.. ولكن هذا التاريخ وتلك الحضارة لولا أنها وجدت من القدماء من يحافظ عليها ويوثقها، ما وصلت إلينا!..والسؤال هنا هل نشأتنا فى قلب حضارة ممتدة منذ آلاف السنين،
جعلنا نحن أيضًا شغوفين بالتوثيق لحاضرنا الذى سيصبح تاريخا للأجيال القادمة؟!.. أم أننا ما زلنا منشغلين بالزهو بأمجاد القدماء، ولا ندرك القيمة الحقيقية
لبعض من يصنعون أو حاولوا صنع حضارة حديثة ومتطورة يجدر بنا أن نفتخر بها وبهم، ونبنى على ما صنعوه، ونتعلم منه؟!.. ما دفعنى للتفكير فى هذا الأمر هو أننى منذ عدة أشهر أعيش فى رحاب المؤلف الموسيقى جمال سلامة، وذكرياته منذ طفولته وحتى وفاته.. فبسبب قربى منه فنيًا وإنسانيا؛ً كان يحكى
لى الكثير من الذكريات الثرية التى كانت تفاجئنى وتبهرني، ففكرت حينها فى توثيق تلك الحكايات فى كتاب، لإدراكى بأهميته وثقله الفني، والذى قد يغيبعن الكثيرين رغم الشهرة التى حققها!.. وعندما عرضت الفكرة عليه تحمس بشدة، وبدأنا فى تسجيل كل ما يتذكره منذ طفولته، وحتى من قبل ميلادهمما كان يسمعه من والديه.. وللأسف تأخر الكتاب كثيرًا لما يتطلبه من جهد ووقت، فى ظل ظروف الحياة وإيقاعها اللاهث، ولم أستطع تحقيق حلمى
المشترك مع الدكتور جمال بالإنتهاء من الكتاب فى حياته!.. ولكن ظلت تسجيلاته الصوتية والمرئية معى بمثابة أمانة فى عنقى، أرجو من الله تعالى أن
يوفقنى فى إتمامها بالشكل اللائق.. وحين شرعت فى الكتابة، كان كل همى وما يعنينى هو جمال سلامة، كواحد من أهم مبدعى مصر فى عصره، والتوثيق والمعلومات التى كنت أسمعها منه، وأعرف من خلالها أحداثًا هامة لم توثق بأى صورة من الصور، ولكن بمجرد أن بدأت فى تفريغ وصياغة التسجيلات التى سجلتها معه، وجدت أننى أفتح أبوابًا من المعرفة لم تكن على البال أو الخاطر!.. وبدأت أفتش فى معلومات أحتاج معرفتها وتوثيقها، وبدأت تتفجر داخلنا الكثير من الأسئلة، والجوانب الغامضة التى حاولت البحث عنها، كى تكون المعلومات التى أكتبها نقلًا عنه كاملة ودقيقة.. وفوجئت خلال تلك الرحلة التي لم تنته بالكثير من المعلومات، وشعرت وكأننى أقرأ تاريخنا الثقافى والفنى المعاصر بشكل جديد ولكننى كما فوجئت بمعلومات أبهرتني، وجعلتنى أنتشىفخرًا بما وصلت إليه مصر خلال الفترة التى عاشها جمال سلامة، شعرت أيضًا بالخطر وبالإحباط والخوف الشديد، بسبب غياب التوثيق والتسجيل للكثيرمن المعلومات الهامة، رغم عدم صعوبة هذا الأمر فى وقتنا الحالى!.. فوجدت أن هناك الكثير من الشخصيات الهامة والمؤثرة التى لم تلق أى اهتمام أو توثيق وكذلك الكثير من الأماكن والمؤسسات والأحداث والإنجازات، والتى لم يلق عليها أى ضوء!..وأصبحت الكثير من المعلومات والأحداث لا يعرفها سوى من عاصروها فقط، والذين فقدنا بعضهم، والبعض الآخر ما زال يعيش بيننا دون أن نحاول الإستفادة منهم، لحفظ وتوثيق ما تبقى!.. وعلى سبيل
المثال، أحزننى بشدة ما اكتشفته عن الإبداع الضائع للمخرج الفذ متعدد المواهب شادى عبد السلام! رغم ما حققه من شهرة ونجاح وجوائز وتكريمات محلية وعالمية!، فقد روى لى الدكتور جمال أنه فى بداياته عام ١٩٧٢ تقريبًا، قام بوضع الموسيقى التصويرية لفيلم تسجيلى تم تصويره كله تحت
الماء!..وأن المخرج العبقرى شادى عبد السلام كان مكلفًا من قبِل مؤسسة السينما بعمل أفلام جديدة وفيها فن وإبداع -حسب قوله- وحينما طلب منه
وضع الموسيقى قال له: "أنا عندى فيلم هيتصور كله تحت المايه، فعايزك تعمل موسيقى ما تبقاش عادية، تخيل الموسيقى اللى تحت المايه تبقى إزاى"
وبالفعل وضع الدكتور جمال موسيقى الفيلم مستخدمًا الأورج، وحصل على جائزة عن موسيقى هذا الفيلم الذى لم يتذكر إسمه! ولكن الكارثة أننى حينما حاولت توثيق تلك المعلومات، لم أجد أى أثر أو معلومة عن هذا الفيلم الهام والرائد فى ذلك الوقت! سواء فى الكتب أو من بعض المقربين من المخرج
الكبير، ولكن المعلومة الوحيدة التى توصلت لها، أنه تولى عام -١٩٦٩ أو ٦٨- ما يطلق عليه مركز الفيلم التجريبى التابع لمؤسسة السينما، والذى أنشأته
وزارة الثقافة، وأن شادى عبد السلام قدم الكثير من الأفلام التسجيلية، بخلاف الأفلام القليلة التى تنسب إليه فقط، ولم أستطع حتى الآن الوصول لقائمة
لكل أفلامه! أو للأفلام التى أنتجها مركز الفيلم التجريبى! كما حاولت البحث فى تاريخ هذا المركز ولم أجد معلومات وافية سوى أن هذا المركز قدم الكثيرمن الأفلام التسجيلية التى تميزت بمستويات رفيعة للغاية! ولا أعلم كيف نترك تاريخًا كهذا دون أن نعرفه، ودون أن نعرضه على شاشاتنا؟! وهل هذه
الأفلام موجودة أم فقدت! وكيف تكون معلوماتنا منقوصة إلى هذا الحد عن أحد أهم مخرجينا الذين صنعوا مدرسة وبصمة سينمائية متفردة؟!..وإذا كنا
نفتقد المعلومات عن قامة كشادى عبد السلام، فماذا عن من هم دونه؟!..هل ندرك قيمة التوثيق الدقيق للشخصيات والأماكن والمؤسسات وكل ما نعيشهمن أحداث؟!..فالدول المتطورة تعى جيدا قيمة التوثيق لأحداثها وشخصياتها وعاداتها وكل معلوماتها وتفاصيلها بدقة، إدراكا منهم بأنهم يوثقون التاريخ
المعاصر لبلادهم، حتى تقرأه الأجيال القادمة بوعى ويتعلموا ممن سبقوهم!..فهل سنترك تاريخنا الثقافى يضيع ويندثر؟!ونظل نتفنن فى إهدار الفرص التىيمكننا بها صناعة تاريخ تفتخر به الأجيال القادمة؟!.
د. رشا يحيى: أستاذة بأكاديمية الفنون