فككت الكلمات وأعدت ترتيبها كما حاول عم سيد حجاب أن يعلمنى خلال عدة لقاءات جمعتنى به قبل رحيله، لأجد تعريفا يليق به وبإبداعه لكننى لم أجد أبلغ من تعريفه هو لنفسه فى أول قصيدة نشرها له عمنا صلاح جاهين، بعنوان "ابن بحر" ويقول فيها:
أنا ابن بحر
ابن النسيم اللى رضع من السما
رضع حليب النجمة
حنية وفجر..
وبعدها جه واترمى
فى حضن أبويا وأمى وأخواتى الكتار
خلانا نفهم بالوما
خلا خيالنا يمد إيده يطول شماريخ السما
نشرت هذه القصيدة فى 27 يوليو 1961، وقدمها جاهين بقوله: «عندما أبحث عن كلمات أقدم بها هذا الشاعر الجديد، لا تلبينى إلا الكلمات العاطفية، وإذا كان هناك حب من النظرة الأولى، فقد أحببت شاعرنا من الشطرة الأولى، اسمه سيد حجاب.. تذكروا جيداً هذا الاسم فسوف يكون له شأن فى حياتنا المقبلة».
ويحكى الشاعر سيد حجاب عن تفاصيل لقائه بجاهين الذى تسبب فى حبه للشعر العامى فيقول: «بدأت إلقاء الشعر أمام صلاح جاهين، وجهه متجهم لا يبتسم كل ما يصدر عنه إشارة قول كمان، انتهت القصيدتان الأولى والثانية وفى الثالثة فوجئت بالوجه العبوس المكشر يضحك وينتفض ليحتضننى ثم يهتف (كدا بقينا كتير يا فؤاد)».
لم يكن هذا الإعجاب فقط من جاهين ولكن الشاعر عبد الوهاب البياتى هو الآخر سجل إعجابه بسطور ظلت باقية مع تتابع الأجيال إذ قال عنه ديوانه الأول «صياد وجنية»: «سيد حجاب من الشعراء القلائل الذين كتبوا بلغة الناس البسيطة، واستطاعوا أن يخترقوا جدار الصمت، لينفذوا إلى جوهر الأشياء، واستطاعوا -بكل روعة- استخدام لغة الحديث اليومى لتحريك الأشواق إلى عالم جديد، متخطين عقبات الرموز واللغة. حتى كأنك تسمعها لأول مرة. إن الطبيعة الصامتة والحزن والكلمات تستحيل -فى قصائد هذا الشاعر الموهوب- إلى دلالات حية، تنبض بحرارة الخلق وبكارته».
ومن إعجاب الشعراء بفيلسفوف الفقراء.. نقفز إلى أبرز الملحنين الذين تعاونوا مع عمنا سيد حجاب وهم ياسر عبد الرحمن وبليغ حمدى وميشيل المصرى وعمار الشريعى وكان لعمار نصيب الأسد فى التعاون فتعاون مع ميشيل فى تتر «ليالى الحلمية» ومع ياسر عبد الرحمن فى الوسية، ونستعرض هنا تعاونه مع العبقرى بليغ حمدى والغواص فى بحر النغم عمار الشريعي.
سيد حجاب وبليغ حمدى
لا أريدك أن تقر بما هو معلوم من تعاون سيد حجاب وبليغ حمدي، ولكننى أود أن اصطحبك إلى بحر النغم حيث ذلك الصياد وتلك الجنية التى طواعية أهدته ما فى جوفها من حروف ذهبية، فكان على قدر تلك المنحة وهذه العطية فأعطاها لجنى آخر أو قل عبقرى ليصيغها لحنا يتغنى به الناس فيبتهجون. يعاودون سماعه فينتشون.
اللى بنى مصر كان فى الأصل حلواني
وعشان كده مصر يا ولاد مصر يا ولاد حلوة الحلوات
وادى وبوادى و بحور و قصور وموانى
توحيد وفكر وصلاة
تراتيل غنا وابتهالات
وكل ده فى مصر يا ولاد مصر يا ولاد حلوة الحلوات
اللى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى
اسمه على بوابتها لا زال ولا زايل .. لا زال ولا زايل
ساعة الهوايل يقوم قايل
يابلداهـ .. يابلداهـ
وييجى شايل
هيلا هوب شايل .. هيلا هوب شايل .. حمولها و يعدل المايل
وعشان كده مصر يا ولاد حلوة الحلوات
شاءت الظروف أن يقرأ سيد حجاب ما كتبه فى هذه المقدمة على صاحب البوابة محفوظ عبد الرحمن، الذى انبهر بها وبلغة سيد حجاب وعمق فكره وتناوله للعمل التاريخى والدرامى وأعجب بها، مرشحا الموسيقار بليغ حمدى لتلحينها، والذى قال عنه «بليغ ملحن بمزاج مغني، عاشقًا حقيقيًا لمصر والموسيقى».
ما أن انتهى حجاب من كتابة الأغانى حدد موعدا مع بليغ ليقرأها عليه وتقابلا بمكتبه بشارع بهجت على بالزمالك، ويعيش الاثنان معا فى معانى التتر والأسلوب الرائع الذى انتهجه المؤلف ويمسك بليغ بالعود ويبدأ فى تلحين الشطرات الأولى منه وهو فى قمة انفعاله بالمعانى الجميلة وينبهر بليغ بهذا الدخول ويستمر فى تلحينه لفترة طويلة امتدت إلى ما بعد منتصف الليل ويستأذن حجاب بليغ بالانصراف ويتركه ليكمل اللحن ويعود إليه فى اليوم التالي.. ويتفرغ بليغ لتلحين هذا العمل ليفاجئه بما انتهى إليه، ويعود سيد حجاب بعد أن يكون قد انتهى من النص الكامل للتتر، ويبدأ بليغ فى كتابة النوتة الموسيقية له بخط يده، وينبهر بليغ بالنص الكامل للمقدمة ويستدعى الشاعر ليسمعه اللحن كاملا، ثم يستدعى المطرب الفنان المبدع على الحجار، الذى استقر عليه الملحن والشاعر وكاتب البوابة على أنه أفضل من يغنى هذا التتر وهو ما تحقق بالفعل وحقق نجاحا باهرا لتردده معه الجماهير كل مرة قبل بدء المسلسل.
ويقول حجاب عن افتتاحية القصيدة "اللى بنى مصر كان فى الأصل حلواني": "الكلمة ملكك وهى فى قلبك، فإذا خرجت كانت ملك الناس"، ويضيف هذه الجملة من التراث وكل ما فعلته هو تفسير تلك الجملة لأن مصر فريدة بين بلاد الله، فمصر أول إبداع إنسانى كبير حدث، ويظل هذا الإبداع فى الروح المصرية مهما حدث من انحدار.
بوابة الحلوانى عمل عظيم يستحق التأمل ويؤكد أنا أمام شاعر استثنائى قرأ التاريخ جيدا ليعبر عنه فى إيجاز وبلاغة وعلى هذا الأساس لا بد أن يسند إلى ملحن يعى هذا البناء المركب الذى لا يحتمل تعقيدا فى اللحن. لهذا اكتفى بليغ حمدي، بصياغة اللحن بالكامل فى مقام البياتى الشجي، مع نقلة قصيرة جدا فى كل كوبليه، تذهب إلى مقام الحجاز، ثم تعود فورا إلى البياتي.
بعبارة أخرى، لا يغرقنا بليغ حمدى فى تنوعات مقامية معقدة. فاللحن مقصود أن يكون سهلا، وشعبيا يتناسب مع تاريخ الشعوب والبنائين.
المفارقة أن عازف العود الشجى هنا كان عمار الشريعى الذى أكمل دائرة الإبداع باستخدام تقنية النقر المتقطع على الأوتار، بحيث نسمع النغمات بشكل متقطع، يبرز كل نوتة موسيقية بشكل واضح ومنفصل، بحيث نركز مع مضمون اللحن وليس مع تقنية العزف وزخرفاته، وهى طريقة فى العزف لا تقدم نوتات منفصلة، وإنما نغمات متصلة.
حجاب والشريعى
المرحلة الأخرى الهامة كانت الشراكة بين حجاب وعمار الشريعى فقد كانت بينهما كيمياء من نوع خاص تجلت فى الأعمال التى قدمهما الكبيران ولاقت نجاحا كبيرا، فقد قدما كما كبيرا من تترات وأغنيات المسلسلات، والأغنيات المستقلة التى قدمت فى ألبومات كبار النجوم، إلى جانب تجربتهما فى ألبومى الأطفال اللذين يحملان عنوان «أطفال أطفال» و«سوسة» والتى كانت من أنجح التجارب الغنائية للطفل حتى يومنا هذا.
ومن أبرز تترات المسلسلات التى جمعت بين شعر سيد حجاب وموسيقى عمار الشريعى الأيام، ليالى الحلمية، أرابيسك، أبو العلاء البشري، الشهد والدموع والليل وآخره وغيرها من الأعمال.
أيام.. ورا أيام.. ورا أيام
لا الجرح يهدا.. ولا الرجا بينام
ماشى ف طريج الشوج.. لكن جلبى
مطرح ما يمشى يبدر الأحلام
العتمة سور .. والنور بيتوارى
وايش للفَجَارى فى زمان النوح؟
ميتى تخطّى السور يا نوارة..
ويهل عطرك ع الخلا.. ويفوح؟!
ويشدنا لقدام..
أيام.. ورا أيام.. ورا أيام
من عتمة الليل.. والنهار راجع
ومهما طال الليل بييجى نهار
مهما تكون فيه عتمة ومواجع
العتمة سور.. ييجى النهار تنهار
وضهرنا ينْجام
وعن هذا الثنائى العظيم وخلاف لقائهما الدائم يوميا وفى إحدى الحلقات النادرة ببرنامج «سهرة شريعي»، استضاف عمار الشريعى صاحبه الشاعر أو الشاعر صاحبه كما عرف سيد حجاب فى بداية اللقاء.
وأضاف الشريعى قائلا: صاحبى الشاعر روض الكلمة. استأنسها.. تبناها.. تنط كلمات العامية المصرية كلها تتسابق علشان تلاقى مكان على حجر بابا سيد حجاب.
وعن اختلاف الغناء الذى قدمه حجاب والشريعى قال عمنا سيد حجاب: "الغنا اللى عملناه سوا والذى بدأ فى تتر مسلسل الأيام كان فى صلب الدراما.
وتابع حجاب: "قابلت عمار الشريعى عام 1977 وحينها اكتشفت إنه هو الموسيقار اللى بحلم بيه، واكتشف هو إنى أنا الشاعر اللى نفسه فى كلامه، بداية عملى مع الشريعى كنا نكتب ونلحن ونضع في" الدرج" حتى خرجنا بأهم عملين وهما "الأيام" و"بابا عبده".
ويستعيد ذكرياته مع الشريعى بمجئ الأستاذ يحيى العلمى له ليكتب أغنيات مسلسل "الأيام"، فلم يعجبه كتابة النص، وطلب منه الأستاذ يحيى العلمى إعادة كتابته ليكون ملحمة شعبية لطه حسين، فأعاد كتابة النص بترك مساحة للغناء ليلعب دورا أساسيا فى البناء الدرامي.
وفى نفس الأثناء التقى حجاب بالأستاذ محمد فاضل ليكتب أغنيات "بابا عبده".
حزروا فزروا مين بابا عبده
واسمعوا وانظروا بعدين ردوا
وانزلوا دوروا قبل ما تشتروا
واحذروا تقليد الصنف
وده مش اراجوز ولا فى البوتيكات
لا ولا موجود فى الفاترينات
لكن بيجود أوى يا أهل الجود
والواحد منه بـ100 وألف
رشح حجاب، عمار الشريعى لتلحين أغانى "بابا عبده"، لكن محمد فاضل رفض قائلا: "أنا اشتغلت مع عمار مزيكا «سفر الأحلام» وما أسعفنيش وما حبتش اللى عمله". فرد عليه حجاب: "عمار قامة فارهة أنت لم تعرفها بعد، فامنحنى فرصة أن نعمل هذه الأغانى سويا"، لكن فاضل أصر على رفضه ورشح أحد الملحنين لسيد حجاب الذى قال له: هذا الملحن ليس على موجتنا الفكرية وسيعترض على بعض الأغانى وتراهنا على ذلك وخسر فاضل الرهان، فقلت له إذا سنتعاون مع عمار الشريعي.
وفى هذه الأثناء كان عمار فى لندن واضطر حجاب للكذب على يحيى العلمى ومحمد فاضل لدى سؤالهما له عن استلام عمار الأغاني، فأكد لهما أنه استلم وبدأ فى التلحين، وكانت المفاجأة أن عمار عاد من سفره يعانى من فقرات الظهر ولم يكن هناك حل سوى أن يلحن عمار وهو مستلقى على الأرض وبجواره عمنا سيد حجاب يلقنه الكلمات، انبهر فاضل والعلمى بما تم إنجازه وبعبقرية عمار وكانت بداية تعاون متواصل فيما بعد.
الغنا بديلا للكوراس
وعن تآلف الكلمة واللحن فى الصديقين أكد حجاب فى أكثر من لقاء أنه والشريعى من عشاق الدراما الشكسيبرية والأغريقية وأنهما تعلما منهما أن الغناء يقوم بمقام الكوراس فى الدراما التقليدية أو الكلاسيكية، وأن الكوراس يتدخل فى البداية فيما يسمى «البرولوج» وفى النهاية فيما يسمى «الإيبيلوج»، وفى الوسط كان الكوراس يتدخل لينقل ما يحدث خارج خشبة المسرح وهذه الأحداث كان يعف عن ذكرها المسرح الأغريقى بكل نبالته.
خاتمة
فى 2013 أجريت حوار مع عمنا سيد حجاب بعد حصوله على جائزة الدولة التقديرية وقال لى عن شعوره بتلك الجائزة: «تأخرت كثيرا، لكن عزائى أنها أتت فى الزمن الجديد، ففى الزمن الذى مضى كان الذين ينالونها هم محاسيب النظام، وإن كان هذا لا ينفى أنه حصل عليها أسماء شريفة محترمة».
وحينما قلت له حينها.. ماذا تقول لمصر؟
أجاب: سأقول مثلما قلت من قبل، كلماتى وحبى لا يتغيران:
وأنا فى قلب دوامتك الدايرة بينا
بصرّخ بحبّك يا أجمل مدينة
يا ضحكة حزينة
يا طايشة ورزينة
بحبّك واعفّر جبينى فى ترابك
وأعيش فى رحابِك وأقف جنب بابك
جناينى أروى بالدم وردة شبابك
يا زينة جنينة حياتنا اللعينة
بحبّك يا بنت اللذين.. بحبّك.