فى هذا الأسبوع، أختتم سلسلة مقالاتى المخصصة لأسباب وقضايا الحرب فى أوكرانيا، وأبعادها الاستراتيجية والجيواقتصادية والأيديولوجية والسياسية العالمية. وهى فرصة لفهم هذا الصراع الرهيب ليس من خلال الأخبار المباشرة التى تتناولها القنوات الإخبارية بشكل مستمر ولكن من خلال نظرة تحليلية شاملة.
وقائع الحرب المتوقعة
منذ كتابة النسخة الأولى من هذه المقالات فى مارس وأبريل ومايو ٢٠٢١، كان من الواضح أن العداء بين أوكرانيا وروسيا والذى لم يتم تخفيفه من خلال التدخل الأوروبى الأمريكى فى أوكرانيا، بل استمر وتزايد.. خلاف سيؤدى حتما إلى حرب مباشرة أو غير مباشرة بين الغرب وروسيا. هذا الصدام بين إمبراطوريتين (الروسية والأمريكية الأطلسية)، المتعارضتين تمامًا، كان وفقًا لنا، «صراعا قاتلًا»، سواء بالنسبة للاستقلال الاستراتيجى لأوروبا أو بالنسبة للشعب الأوكرانى الذى ضحى به الغرب واستخدمه كضربة قاصمة فى مواجهة روسيا وذلك فى إطار استراتيجية تبدو أخلاقية للغاية وتهدف لتوسيع الديمقراطية الليبرالية الغربية، لكنها فى الواقع ساخرة للغاية ولا تهتم مطلقا بـ"إراقة الدماء».
بعد مرور ما يقرب من عامين على الغزو (غير المقبول) لأوكرانيا من قبل روسيا الانتقامية، التى أصبحت قوة رجعية محظورة على الدول وزعيمة لأعداء الغرب، فمن الواضح أنه من وجهة نظر باردة - لا تعتمد على العاطفة أو الأخلاق- أو بمعنى آخر من وجهة نظر ما يسمى بالتحليل الجيوسياسى الكلاسيكى، فإن هذا الصراع الأوكرانى لم يفد الأوروبيين بأى حال من الأحوال.
حيث انفصل أكثر من أى وقت مضى عن احتياطيات الغاز الروسية، وهى الأكثر سهولة فى الوصول إليها وغير مكلفة فى القارة، وبالتالى فهى مثالية للقطاع الصناعى الصحى فى أوروبا فى مرحلة انتقال الطاقة. ومن ناحية أخرى، فقد أفادت هذه الحرب بشكل موضوعى أكبر ثلاثة مفترسين ومستغلين حضاريين واستراتيجيين للقارة القديمة:
١- الولايات المتحدة، التى تبيع أسلحتها وغازها الصخرى إلى أوروبا أكثر من أى وقت مضى (أكثر تكلفة بثلاث مرات من روسيا)وهذا الغاز الطبيعى يحظر الاتحاد الأوروبى على نفسه إنتاجه على أراضيه لأسباب بيئية!.
٢- الصين «الماوية الجديدة أو الشيوعية الجديدة»، التى تفوز بكل المقاييس، تتظاهر بأنها صانعة للسلام، وتكمل صعودها إلى المركز الأول ردا على الولايات المتحدة التى دفعتها للتقارب مع روسيا.
٣- تركيا القومية الإسلامية بقيادة أردوغان، السلطان الجديد الذى أعيد انتخابه فى نهاية مايو ٢٠٢٣، ويعود الفضل فى ذلك جزئيًا إلى دوره كـ «كرئيس ملتزم بأجندة محددة» فى البحر الأسود، وذلك بفضل سياساته المتوازنة مع موسكو واشنطن خاصة أنه يحافظ دائما على سياسة الحفاظ على مسافة واحدة مع هاتين الدولتين.
ونحاول فى هذه المقالات التى تحمل عنوان"وقائع الحرب المعلنة»، أن نرصد الصراع بين أوكرانيا وروسيا، من ناحية ومن ناحية أخرى، الصراع بين روسيا والغرب أو بمعنى أدق الصراع الروسى - الصين والغرب.
أهداف روسيا فى أوكرانيا والاستراتيجية الغربية المضادة
عند بداية «العملية العسكرية الخاصة» الروسية وغزو أوكرانيا، كانت الأهداف الاستراتيجية لروسيا فى أوكرانيا:
أولا، حرمان الجيش الأوكرانى من قدرته على ضرب دونباس (أو حتى شبه جزيرة القرم). كانت على وشك الهجوم عليها واستعادتها من قبل كييف، التى كانت تقصف سكانها الروس الأوكرانيين بشكل مكثف مرة أخرى منذ عام ٢٠٢١، فى انتهاك لاتفاقيات مينسك، وقصفتها بشكل مكثف منذ عام ٢٠١٤ ثم لمدة ثمانى سنوات (ما بين ١٠٠٠٠ و١٤٠٠٠ حالة وفاة).
ثانيًا: إنشاء تواصل إقليمى بين شبه جزيرة القرم فى الجنوب، ذات الأهمية الاستراتيجية فى البحر الأسود، ودونباس فى الشرق والشمال الشرقى.
ثالثًا: إزالة العناصر القومية الأكثر معاداة لروسيا من الجيش الأوكرانى والسلطة ("نزع السلاح» و«إزالة النازية")، ثم منع الغرب والقادة الأوكرانيين، من خلال الصراع المستمر، من ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسى، الذى لا يستطيع الاندماج فى حظيرتها ؛ فهى دولة فى حالة حرب ولديها نزاع إقليمى خطير لم يتم حله.
وبعد عدة أشهر، وقبل النجاحات الأولى للهجوم المضاد الأوكرانى فى ربيع عام ٢٠٢٢، يبدو أنه قد أضيف هدف إضافى بالنسبة لروسيا، أقل أولوية ومن المرجح أن يتطور ويكون بمثابة عنصر مساومة حيث يعتمد هذا الهدف الروسى على منع أوكرانيا من الوصول إلى البحر تماما والسيطرة على جنوب أوكرانيا بأكمله ("روسيا الجديدة»...).
كما رأينا منذ ربيع عام ٢٠٢٢، إذا تخلى الجيش الروسى عن مدن الشمال الغربي؛ فإن الأهداف الحربية للكرملين والجيش الروسى فى أوكرانيا تتمثل فى تعزيز السيطرة على دونباس حتى ماريوبول فى الجنوب وحتى نهر الدنيبر فى الغرب والوسط، ثم محاولة حرمان أوكرانيا من الوصول إلى البحر من خلال التقاطع بين دونباس وترانسنيستريا، عبر ماريوبول وشبه جزيرة القرم وأوديسا. وهذه الأخيرة لم يحتلها الروس، ولا تزال تتعرض للقصف من حتى كتابة هذه السطور.
وإذا لم يكن بوسعنا أن ننكر أن، روسيا تدخلت فى هذه المنطقة بحجة الدفاع عن «الروس» المتواجدين فى شرق أوكرانيا والذين تم الاعتداء عليهم ومهاجمتهم من قبل كييف حيث كان الجيش الأوكرانى يتأهب لاستعادة دونباس - التى تعرضت للقصف منذ عام ٢٠١٤ (عدد القتلى من ١٠ إلى ١٤ ألف قتيل أغلبهم من المؤيدين لروسيا).
ومن خلال هذه «العملية العسكرية الخاصة»، لجأت موسكو إلى زيادة «الكتلة الحرجة» للدولة الروسية، عن طريق غزو الأراضى السوفيتية الروسية السابقة التى يسكنها الناطقون بالروسية والموالين لروسيا فى جميع أنحاء جنوب البلاد وشرق نهر الدنيبر ولجأت موسكو إلى هذه السياسة للهروب من سيطرة الغرب على المناطق القريبة منها حيث لاحظت أن الغرب لن يتوقف أبدًا عن توسيع نطاق الناتو حول الحدود الروسية القريبة كما أن الناتو لن يتوقف عن توسيع أنظمته الدفاعية المضادة للصواريخ وقواعده فى أوروبا الشرقية.
فى الواقع، من المحتمل أن الجيش الروسى لم يكن لديه فى البداية هدف غزو أوكرانيا بأكملها، لذا يبدو أن الجبهة الشمالية الغربية كانت أكثر من محاولة لتشتيت القوات الأوكرانية لكى تنشغل بالأحداث فى المنطقة الشرقية من البلاد.. كل ذلك كان بمثابة المرحلة الأولية الهادفة لتدمير البنية التحتية الأوكرانية ومع ذلك، فإن أهداف بوتين الحربية تتطور باستمرار وفقًا لتوازن القوى والسياقات، بما فى ذلك فى سياق حروب العطاءات للحصول على هوامش تفاوضية، حيث يشكل البحر الأسود وأوديسا قطعتين أساسيتين من المعادلة.
«روسيا الجديدة» (نوفا روسيا).. هدف روسى لا يقبله الغرب والأوكرانيون
المنطقة الجنوبية والشرقية الشاسعة من أوكرانيا الناطقة بالروسية، التى سيطرت عليها روسيا حتى عام ١٧٧٠، والتى تمتد من دونباس (الروسية حتى لينين) إلى ترانسنيستريا، يطلق عليها الاستراتيجيون الروس والقياصرة الجدد اسم «نوفوروسيا»، أو «الجديدة».
روسيا"/Новороссия. وفى الحقيقة، ولا شك أن سيطرة روسيا على هذه المنطقة ستحرم أوكرانيا من الوصول إلى البحر الأسود، وهو أمر غير مقبول وجوديًا بالنسبة للأوكرانيين، وكذلك بالنسبة لحلفائهم الأنجلوسكسونيين وحلف شمال الأطلسى، وهذا الأمر تطرقت إليه مقالات وكتابات الاستراتيجيين الأنجلوأمريكيين البارعين فى «القوة البحرية». والتى تدعو إلى تطويق قلب روسيا (ماكيندر؛ سبيكمان).
ومن وجهة النظر هذه فإن أوكرانيا تشكل مسرحًا للعداوة القديمة الأوسع نطاقًا التى تعارض الإمبراطوريتين الروسية والأنجلوسكسونية. وهنا يجب أن نتذكر أن «نوفوروسيا» هذه عبارة عن سهل واسع إلى الشرق والجنوب الشرقى والجنوب يضم معظم الصناعات الأوكرانية والروسية السوفيتية السابقة (الفحم والصلب والأسلحة والغاز الطبيعى وما إلى ذلك) بالإضافة إلى موانئ التصدير وأوديسا.
وبالإضافة إلى كل ذلك فإن أهداف الحرب الروسية هذه، إذا تحققت، من شأنها أن تحول أوكرانيا إلى بلد زراعى يعتمد كليًا على الاتحاد الأوروبى أو خاضع لروسيا، وهو خيار يبدو مستحيلًا اليوم بكل تأكيد، لأن الغزو الروسى لم يسفر إلا عن جعل الأوكرانيين، الناطقين بالروسية والأوكرانية، على حد سواء، يضطرون إلى الانفصال عن أوكرانيا.
وهذا يعنى الاستيلاء على ٤٠٪ من أراضيها من الدولة الأوكرانية ولذلك فمن غير المقبول على الإطلاق للغربيين والأمريكيين والإنجليز. وهذا الطموح الروسى بحد ذاته يمنع أى اتفاق سلام مستقبلى. ومن هذا المنطلق، فإن احتلال مدينة ماريوبول الساحلية الاستراتيجية- التى تمنح السيطرة على بحر آزوف، والتى استعادها الأوكرانيون من الروس فى عام ٢٠١٤، واستعادتها روسيا مرة أخرى فى ربيع عام ٢٠٢٢ - كان له تأثير كبير على المنطقة.
وكانت هذه الحقيقة بمثابة «انتصار» للجيش الروسى، لأنه من خلال السيطرة على الأراضى الواقعة بين خليج القرم حتى الحدود الروسية الحالية، ستحظى روسيا بالسيطرة الكاملة على بحر آزوف وبالتالى تكون قادرة على إمداد الميناء العسكرى من سيفاستوبول عن طريق الجسر الحالى فوق مضيق كيرتش ومن دونباس.
وهنا تتضح حقيقة الهجوم المضاد الأوكرانى، الذى يتقدم بشكل أبطأ بكثير مما كان متوقعا، فى وقت كتابة هذه السطور، يبدو أكثر فأكثر أنه يهدف إلى استعادة شبه جزيرة القرم، وهو الخيار الذى سيتم تفضيله من خلال تسليم الصواريخ بعيدة المدى مثل برج الثور الألمانى.
وأمام كل ذلك يمكن للجانب الروسى أن يذهب إلى مناطق صراع جديدة فقد يمكن أن يفكر فى استخدام خيار «ترانسنيستريا»، وبالتالى فتح جبهة أخرى فى الغرب، مع العلم أنه فى حالة استمرار توسع الناتو نحو الشرق، فلن يتمكن أبدًا من مواجهة ذلك خاصة أنه مع قبول انضمام مولدوفا إلى حلف شمال الأطلسي؛ فإن ذلك قد يساعد على امتداد الحرب الأوكرانية الروسية إلى ترانسنيستريا، فى حالة إصرار الغرب على «عدم إغلاق باب» حلف شمال الأطلسى فى وجه البلدان المتاخمة لروسيا.
وفى الحقيقة، جمهورية مولدوفا الناطقة بالروسية، التى نصبت نفسها بنفسها، جمهورية مولدوفا، ترانسنيستريا، الواقعة غرب أوديسا، والتى يسيطر عليها الانفصاليون الموالون لروسيا منذ التسعينيات ويحتلها الجيش الروسى، يمكن أن تكون أيضًا جزءًا من هدف الحرب الروسى فى بعدها الأقصى، بالتأكيد فى الوقت الحالى لا يمكن تحقيقه.
ومع ذلك، فإن مدينة أوديسا الساحلية الاستراتيجية الناطقة بالروسية وهذه المنطقة بالتأكيد بعيدة كل البعد من أن يستحوذ عليها الكرملين نظرًا للانفصال بين روسيا وروسوفيليا - تظل عنصرًا أساسيًا فى» نوفوروسيا» بسبب موقعها الاستراتيجى على البحر الأسود لتصدير والبضائع والمواد الخام الأوكرانية عن طريق البحر كما أنها نقطة مهمة لوصول إلى المضائق التركية والبحر المتوسط.
ومن الواضح أن الدعم الأنجلو أمريكى والبولندى والألمانى والأطلسى للأوكرانيين سيبذل قصارى جهده لمنع هذه السيناريوهات حول «روسيا الجديدة»، وهى غير مقبولة على الإطلاق، ليس فقط فيما يتعلق بمسألة تصدير القمح والمنتجات الأوكرانية الأخرى. وعرقله رفض روسيا تجديد اتفاق الحبوب المبرم مع تركيا وأوكرانيا برعاية الأمم المتحدة.
ولا يمكن لدول الناتو بأى حال من الأحوال أن تسمح للجزء الشمالى من بحر الشمال بأن يصبح «بحيرة روسية» وأن يتحول بحر الشمال إلى بحيرة «روسية تركية». ولهذا السبب فإن هدف الدول الغربية هو استنزاف القوات التقليدية الروسية قدر الإمكان من خلال الإفراط فى تسليح الجيوش والميليشيات الأوكرانية، طالما ظل هذا ممكنًا بالطبع، وعلى الرغم من وجود علامات على ذلك منذ أغسطس ٢٠٢٣.
ومع ذلك، فإن الدعم الغربى الهائل الحالى - والذى يتكون من توفير المزيد والمزيد من الأسلحة الهجومية المتطورة للأوكرانيين، بما فى ذلك الصواريخ بعيدة المدى، مثل توروس الألمانية، والطائرات بدون طيار (أمريكا ريبر، على وجه الخصوص) وطائرات الأسلحة القتالية (إف ١٦) التى تصنع.
فمن الممكن أن ضرب أهداف فى روسيا وشبه جزيرة القرم، على وجه الخصوص، يمكن أن يساهم فى تطور الحرب الروسية الأوكرانية إلى صراع روسى غربى مباشر، لأن روسيا أعلنت أن أنظمة الأسلحة الغربية هذه، إذا استخدمت ضد الأراضى الروسية أو السفن العسكرية البحرية الروسية أو شبه جزيرة القرم، سيتم اعتبارها هجمات على دول الناتو.. وهنا نتذكر أن الضرب المباشر للأراضى الروسية بأسلحة بعيدة المدى، مثل طائرات F١٦ أو توروس، يشكل فى حد ذاته تجاوزًا لـ «الخط الأحمر». ومع ذلك، فإن هذا الخط الأحمر أصبح فى الواقع أكثر تحركا وأقل احتراما كما يفسره الأوكرانيون ورعاتهم الغربيون الذين يعتمدون على خدعة التهديدات والتحذيرات الروسية. وبالتالى فإن الحرب الروسية الأوكرانية معرضة للتفاقم كما أنها ممكن أن تصل لمناطق جديدة أقرب إلى دول الناتو: البحر الأسود، ومولدوفا- رومانيا، وبالطبع بولندا، التى تشعر بالتهديد من التدريبات الروسية-البيلاروسية ومجموعة فاجنر.
وأخيرا، يشكل الهجوم على شبه جزيرة القرم فى حد ذاته خطا أحمر من المرجح أن يؤدى إلى تطرف موسكو بشكل أكبر ويزيد من زلزالية الصدام بين الغرب وحلف شمال الأطلسى وروسيا.
وهنا نتذكر أيضا خطر وقوع هجوم نووى روسى على الأراضى الأوكرانية حيث حذرت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسى أنه فى حال اللجوء لهذا الهجوم النووى فسيتم الرد بشدة وذلك بتدمير الأسطول الروسى فى البحر الأسود (٣٢ سفينة)، أو حتى كل أو جزء من الجيش الروسى فى الأراضى الأوكرانية المحتلة؛ إلا أن نفس سيناريو الإجراءات العقابية وردود الفعل التى يصبح فيها البحر الأسود المسرح الرئيسى للحرب مع جنوب أوكرانيا، يشكل كابوسًا حقيقيًا ولغزًا استراتيجيًا من حيث «نظرية المواجهة»، لأن المرء لا يستطيع أن يعرف كيف سيكون «الرد» الروسى على العقوبات الغربية الكبيرة.
وإذا استمر الغرب فى تسليح الأوكرانيين على نطاق واسع فى عام ٢٠٢٤ وبمرور الوقت (وهو أمر غير مؤكد، خاصة مع الانتخابات الأمريكية، ومن هنا اختيار الروس لإطالة أمد الحرب)، وإذا لم يتخلوا عن الاندماج المستقبلى فى الاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلسى مولدوفا وأوكرانيا وجورجيا (يرفض وضع حد لسياسة «الباب المفتوح» التى بدأها عام ٢٠٠٨).
لن يتمكن فلاديمير بوتين إلا من تكثيف «العملية العسكرية الخاصة»، مع العلم أنه فى سياق التعبئة العامة التى تفضلها الهجمات الأوكرانية المتزايدة على الأراضى الروسية وفى شبه جزيرة القرم ثم على السفن الروسية فى البحر الأسود، يمكن لروسيا أن تستنزف القوات الأوكرانية بملايين الجنود الروس الذين لم تتم تعبئتهم على نطاق واسع بعد.
الحرب بين إمبراطوريتين ونموذجين متناقضين تماما
إن الهدف الروسى فى أوكرانيا يتجاوز هذا المسرح البسيط للحرب بالوكالة الذى يتعارض فى الواقع، كما يظهر سباق التسلح الجديد، مع إمبراطوريتين عدوتين تاريخيًا وهيكليًا، الإمبراطورية الإقليمية والقارية الروسية ("هارتلاند") «القديمة»، والإمبراطورية الأطلسية- الإمبراطورية البحرية الأنجلوساكسية، التى تهيمن على الاتحاد الأوروبى وتريد السيطرة على «الريملاند» الأوراسية.
وفى الحقيقة، لن يرتاجع الكرملين وسوف يستخدم كل السبل الممكنة تقريبًا للحفاظ على سيطرته على الأراضى فى شرق وجنوب أوكرانيا، بما فى ذلك الوصول إلى البحر الأسود والموانئ الاستراتيجية للغاية عسكريًا واقتصاديًا فى ماريوبول وأوديسا (بالإضافة إلى شبه جزيرة القرم).
وهذه الخطة الروسية، التى ليست جديدة تمامًا، لا يمكن تصورها بالنسبة للإمبراطورية الأنجلوسكسونية والغرب، بما فى ذلك فرنسا (حرب القرم الأنجلو-فرنسية عام ١٨٥٣ ضد روسيا).
وفى الواقع، على مدى قرن ونصف، كان الاستراتيجيون الإنجليز (ماكيندر) والأمريكيون (سبيكمان، ماهان) مثل أولئك الذين أثروا على القادة الأمريكيين أثناء وبعد الحرب الباردة، من زبيجيو بريجنسكى إلى جورج فريدمان، يعملون دائمًا على منع روسيا فى الشمال (البلطيق)، وفى الغرب (رومانيا وأوكرانيا وبولندا)، وفى الجنوب (شبه جزيرة القرم والبحر الأسود).
وهكذا كتب بريجنسكى، فى عام ١٩٩٧، فى كتابه الكبير «الخزانة الكبرى»، «بدون أوكرانيا، تتوقف روسيا عن أن تكون إمبراطورية». وتُعَد هذه الرؤية واحدة من المفاتيح الرئيسية لتفسير الاستثمار السياسى والإعلامى والمالى، ثم الإيديولوجى والعسكرى الهائل الذى قامت به الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى فى أوكرانيا، والذى تم تنفيذه منذ عام ٢٠٠٤. البحر الأسود وشمال المضايق التركية، وحرمانه من السيطرة على أوكرانيا و«خارجها القريب»، هو اتجاه ثابت وحقيقى قوى فى التاريخ والجغرافيا.
وعلى العكس من ذلك، كانت الإمبراطورية الروسية تتوسع دائمًا نحو الشرق، بينما تسعى إلى زيادة عمقها الاستراتيجى نحو الشمال والغرب والجنوب وبشكل عام، أوكرانيا، جورجيا (٢٠٠٨-)، ترانسنيستريا (مولدوفا)، القوقاز (أرمينيا / ناجورنو كاراباخ / جورجيا / أذربيجان)، وحتى آسيا الوسطى السوفيتية السابقة (قيرغيزستان، كازاخستان، أوزبكستان، إلخ)، مناطق ممتلئة بالكامل. وفى الحقيقة، تعتبر الطاقة والموارد الأخرى مسارح ومناطق للمنافسة المتداخلة بين الإمبراطورية الروسية فى مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتى والإمبراطورية الأمريكية الغربية والأطلسية.
وفى نهاية المطاف، يتم استخدام السكان الأوكرانيين من قبل كلا المعسكرين كمنطقة للمواجهة، وإذا كان الكرملين سخيًا فى التضحية بالأرواح، سواء كانت روسية أو أوكرانية، فإن الغربيين ليسوا أقل من ذلك، حتى «آخر أوكراني».
كما أظهر الاستراتيجى الأمريكى و«ظل وكالة المخابرات المركزية»، جورج فريدمان، بوضوح وبسخرية واقعية، فى مؤتمر فى معهد شيكاغو العالمى، ميزة الإمبراطورية الأنجلوسكسونية وأن أسلوبها العسكرى المستمد من المستعمرات البريطانية يعتمد على مبدأ عدم المواجهة المباشرة، ومبدأ فرق تسد (منع أى وحدة قارية أوراسية)، وبالتالى الهيمنة ومن ثم الصراع غير المباشر أو المفوض.
وعلى العكس من ذلك، فإن القوة المباشرة، ولكنها تمثل ضعفًا طويل المدى، للإمبراطورية الإقليمية الروسية تكمن فى صعوبة الحفاظ على منطقة يسكنها سكان أصبحوا عدائيين تحت نير الاحتلال المباشر والمادى.
وبالتالى فإن التحدى الذى يواجه الولايات المتحدة هو بذل كل ما فى وسعها لإحباط الروس فى أوكرانيا، حتى لو كان ذلك يعنى دفعهم إلى أسوأ الانتهاكات من أجل «خسارة قلوب» الشعب الأوكرانى الناطق بالروسية لصالح المحتلين الروس بشكل دائم.. فى حين أن الأنجلوسكسونيين وجميع القادة الغربيين مقتنعون بأن مساعداتهم الاقتصادية والعسكرية الضخمة للأوكرانيين ستنجح فى نهاية المطاف فى إخراج الجيش الروسى بشكل نهائى من شبه جزيرة القرم ودونباس وجميع الأراضى التى استولى عليها الجيش الأحمر.
وفى الواقع، فإن الافتقار إلى الأفراد العسكريين الأوكرانيين المؤهلين للتعامل مع الأسلحة المتطورة بشكل متزايد التى سلمتها القوات الأنجلوسكسونية ودول الناتو الأخرى إلى القوات الأوكرانية، ثم الضعف الكبير للقوات البشرية الأوكرانية والبنية التحتية للبلاد (بما فى ذلك الموانئ والمطارات) (منذ يونيو ٢٠٢٣) يشجع الخبراء العسكريين على الشك فى حتمية مثل هذا السيناريو المتفائل؛ لكن من الواضح أنه لا يمكن استبعاد أى سيناريو.. صحيح أنه إذا كان الفوز فى الحرب أمرًا ممكنًا بالنسبة للكرملين، إلا أن الفوز فى معركة إعادة البناء الاقتصادى، وخاصة قلوب أوكرانيا التى تعرضت للاعتداء، سوف يكون أكثر صعوبة.
وفى الواقع، تمتلك الإمبراطورية الغربية كل من القوة السياسية والعسكرية والأيديولوجية المعرفية (القوة الناعمة)، ولكن قبل كل شيء الاقتصادية والمالية (أسلحة العقوبات الجماعية)، أسلحة وخطط استراتيجية للغزو والهيمنة لا مثيل لها فى بقية العالم. ولم تتحمل روسيا بعد العبء الأكبر من العواقب المدمرة للعقوبات وعمليات الحظر، كما أن عملية إلغاء الدولار التى ترغب فى تسريعها، ولكن أثارها ستكون بطيئة، لن تؤدى بالضرورة إلى «التأثير المدمر» لأن الصناعة الأمريكية يمكن بسهولة نقلها وإعادة إطلاقها حتى مع انخفاض قيمة الدولار فى حال تطبيق سياسة إلغاء الدولرة.
ومع ذلك، فإن الضعف الرئيسى للغرب يكمن فى ضعف ميل قادة الديمقراطيات الليبرالية لخدمة المصلحة الوطنية والحضارية لدولهم والاستماع إلى الاستراتيجيين الأكفاء، لصالح المنطق الانتخابى قصير المدى أو الغوغائية التى تتكون من ركوب الأمواج التى تستهدف اللعب على العواطف التى تقودها وسائل الإعلام وجماعات الضغط النقابية المرتبطة بالمصالح العابرة للحدود الوطنية.
يمكننا بالطبع أن نذكر أيضًا جماعات الضغط الأمريكية الخاصة بالأسلحة والغاز الصخرى، التى دفعت إدارة بايدن (نائبة الرئيس الأمريكى كامالا هاريس ليست سوى زوجة عضو جماعات اللوبى السابق لشركة الأسلحة «لوكد مارتن")، لتهيئة الظروف المناسبة لحرب دائمة فى أوكرانيا من أجل الحفاظ على مبيعات الأسلحة الأمريكية فى أوروبا لتحل محل «السوق» فى أفغانستان مع انسحاب الجيش الأمريكى فى عام ٢٠٢٠.
وهذه ليست أخبار جيدة للسلام لأن صناعات الأسلحة الأمريكية الغربية - وبالتالى الناتو - ليس من مصلحتها الترويج لحل سلمى حقيقى فى أوكرانيا فى الوقت الحالى.. وبالتالى لا توجد هناك رغبة فى التوقف عن تطويق روسيا من الشرق والجنوب والشمال، من خلال توسيع الناتو، الأمر الذى سيكسب عملاء جدد لواشنطن يشترون الأسلحة الأمريكية. ومع ذلك، فإن هذه الدوامة الجهنمية لا يمكن إلا أن تجبر الدب الروسى المصاب على أن يلجأ إلى طريقة لا يمكن التنبؤ بها وبأثارها؛ ومن الممكن أن يرتكب جريمة لا يمكن إصلاحها.
لا شك أن حل هذا الصراع والمسارات التى يمكن استكشافها فى المستقبل لمنع جبهات أخرى من الاشتعال فى «مناطق حمراء» مجاورة أخرى، لن يكون بمقدورها تجنب مسألة الامتداد الإمبريالى الجديد من التحالف الأطلسى والمؤسسات الغربية والنماذج السياسية القريبة من الحدود الروسية.
كما أن أى صيغة سلام يجب أن تقدم للدول المختلفة فى القارة الأوروبية بنية أمنية عالمية جديدة أقل عدوانية من تلك التى أنشأها حلف شمال الأطلسى، والذى يعد فى حد ذاته آلة للحفاظ على استمرارية صناعات الأسلحة الأمريكية وشرائها، فى مواجهة التهديد الروسى.. نحن بعيدون عن هذا المنظور الحكيم الذى يهدف فى المستقبل إلى أخذ مبدأ «التطويق الروسى الغامض» فى الاعتبار.
ونتيجة لذلك، فإن تدخل حلف شمال الأطلسى يتزايد، منذ الغزو الروسى لأوكرانيا، إلى جانب التبشير الغربى والرغبة الأمريكية فى تقليص العمق الاستراتيجى الروسى فى أوروبا وبالتالى إضعافه وجوديا، وهذه السياسة لا تقل أهمية عن الإمبريالية الروسية الجديدة التى يمارسها الكرملين.. وهذا هو السبب الرئيسى للحرب فى أوكرانيا، التى يدفع سكانها - الذين احتجزتهم هاتان الإمبراطوريتان كرهائن -أبهظ ثمن بشرى.
معلومات عن الكاتب:
ألكسندر ديل فال.. كاتب وصحفى ومحلل سياسى فرنسى. مدير تحرير موقع «أتالنتيكو». تركزت مجالات اهتمامه على التطرف الإسلامى، التهديدات الجيوسياسية الجديدة، الصراعات الحضارية، والإرهاب، بالإضافة إلى قضايا البحر المتوسط إلى جانب اهتمامه بالعلاقات الدولية.. يختتم، فى هذا العدد، سلسلة مقالاته عن الحرب الروسية الغربية.