من المفارقات خلال زلزال المغرب وإعصار ليبيا رواج تعليقات غريبة وكريهة على وسائل التواصل الاجتماعي تعكس القسوة والحقد والتشفي من بعض النفوس، وهي ردود فعل كثيرا ما نلاحظها بعد غضب الطبيعة. وتدّعي تلك التعليقات أن الكوارث دليل على غضب الله وعقابه للعصاة وانتقامه منهم "لأن شرّهم فاق حدّه وفسقهم تفشى في الأرض" إلى آخر عبارات الفساد والفجور ومرادفاتها وصور الانتقام التي يمكن أن تتفتّق عنها مخيلاتهم. لن أستعرض ما ذكروه من تجريح أخلاقي لأخوتنا في المغرب وتخوين سياسي لأبناء الشرق في ليبيا فلهم منا كل التعاطف والتقدير والتبجيل. لكن ما يدعو للتوقف والتمعن ليس فقط درس الطبيعة بل أيضا تلك التفسيرات التي تنمُّ عن تصورات خاطئة عن الخالق موغلة في الجهل وتحتاج إلى زلزال فكري يقوّم تفكير مجتمعاتنا وينقيها مما علق بها من عصور الجاهلية!
هل يحتاج الله عز وجل إلى أن يكون "قائد فرق التعذيب"، كما في آلهة الأساطير، وكأنه "دراكولا" يتلذذ بمص الدماء أو "أمنا الغولة" تتسلل إلى مخادع الأطفال وتخطفهم من أحضان أمهاتهم؟ هل يحتاج إلى تسليط الزلازل والفيضانات والبراكين والأوبئة وكأنها أدوات لعقاب البشر على آثامهم وإثبات قدرته اللامحدودة؟!
نحن إزاء خيال بشري مضطرب وإيمان مشوش مختلط بالأسطورة، يضفي على الله سبحانه وتعالى صفات البشر والآلهة القديمة، مثل العنف والرغبة في الانتقام مع توزيع ظالم للعقاب تارة وصكوك الغفران أخرى. هي شحنة من الانفعالات البشرية غير السوية يغذّيها الخوف من المجهول وخرافات موروثة بدل الفهم الصحيح للدين، كما لا تخلو من تصفية حسابات سياسية للانتقام من الخصوم؛ فعداء بين الأخوة المغاربة والجزائريين وانقسام ما بين الشرق الليبي وغربه وصراع على السلطة ما بين حكومتين وبرلمان قاد إلى تصفية حسابات لا ترقى إلى هول الكارثتين.
ولدينا في التراث الأدبي العربي والإنساني عمل أدبي رائع وهو "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري صوّر أفكار العامّة حول الله والجنة والنار والثواب والعقاب وعدالة الأرض كما يتصورها الناس، وليست عدالة الخالق كما جاءت في القرآن والسنة والقائمة على الخير والمحبة للبشر الذين خلق لهم هذا الكون لإسعادهم لا لتهديدهم وترويعهم والتنكيل بهم. وصدق المعري عندما قال "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم".
لقد شهدت البشرية في تاريخها كوارث طبيعية مدمرة لا تعد ولا تحصى، والحقيقة أن ردود فعل رجال الدين قديما لم تختلف عما يردده الآن بعض شيوخ المسلمين وعامة الناس، حيث ينسون الموتى ويتلهون بتصفية الحسابات. ومن أعنف الكوارث زلزال البرتغال في القرن الثامن عشر، وتحديدا في الأول من نوفمبر عام 1755، وراح ضحيته ما لا يقل عن 70 ألف شخص، أعقبه تسونامي وحرائق دمرت المدن المنكوبة، وتحولت واحدة من أجمل عواصم أوروبا وهي لشبونة إلى مدينة أشباح وأصبحت قصورها وكنائسها المعروفة بمعمارها الجميل مجرد أطلال بائسة. وقد تصادف ذلك اليوم احتفال الكاثوليك في كنائسهم بعيد القديسين. وردد رجال دين أنها عقاب إلهي للبرتغال جراء اضطهادها للبروتستانت ودليل على فساد عقيدة الكاثوليك! ولم تقف هذه النكبة عند هذا الحد حيث سبّبت زلزالا فكريا بين رجال دين وفلاسفة، حتى أن الفيلسوف الفرنسي فرنسوا ماري آروويه، وشهرته فولتير، كتب قصيدة بعنوان فاجعة لشبونة استنكر فيها فكرة الغضب الإلهي من شرور البشر وعقابهم بإنزال الكوارث الطبيعية. وما أشبه اليوم بالبارحة. يقول فولتير: "اهرعوا لتتأملوا هذه الأطلال الرهيبة/ والأنقاض والخرق والرماد الحزين/ وهؤلاء النسوة والأطفال المتراكمة جثثهم/ هل ستقولون عند رؤية هذا الركام من الضحايا/ إن الله ينتقم والضحايا إنما يدفعون ثمن خطاياهم؟ / أية خطيئة وأي جرم لهؤلاء الأطفال /الملتصقة أفواههم بالأثداء المسحوقة والدامية لأمهاتهم؟ / هل بلشبونة التي لم يبق لها أثر رذائل أكثر مما يوجد بلندن أو باريس الغارقة في الملذات؟ / لشبونة منكوبة وفي باريس تقام حفلات الرقص!"
واشترك في هذا الجدل جون جاك روسو، أحد أعلام التنوير في عصر النهضة الأوروبية وصاحب العقد الاجتماعي. وكتب في "رسالة حول العناية الالهية" أن الخسائر التي خلفها الزلزال من مسؤولية الإنسان حيث كان من الممكن ألاّ تكون بهذه الفداحة والحدة لو أن الناس لم يتكدسوا في بنايات متجاورة ذات طوابق على سفوح ضيقة متحدين نواميس الطبيعة. من المعروف عن روسو مناهضته للتطور الذي يأتي على حساب الإضرار بالطبيعة، لذلك يحمل مسؤولية الدمار للمخرّبين للطبيعة ويعفي العناية الإلهية من هذه المسؤولية.
أخيرا، ليتنا ننفض هذه المفاهيم السائدة التي يستخدمها شيوخ التخويف و"الخوان" وأنصارهم -بعبارة العقاد - وليتنا نفهم دروس الطبيعة كرسالة للحرص على استعادة التوازن المختل على الأرض وعدم تخريب الطبيعة المتعمّد والتضامن الانساني. ولنطمئن لأنّ الله تعالى يمهل العباد جميعا، ولا يعاقب العصاة بهذه الكوارث، ولو كان يعاقبهم بأعمالهم في الدنيا لهلك من على الأرض، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: 61].
*صحفية متخصصة في الشؤون الدولية