أثارت مؤلفاته جدلًا كبيرًا في الأوساط الفكرية الإسلامية، خاض على إثرها المفكر الجزائري الراحل محمد أركون عدة معارك في إطار التنوير والتجديد، انحاز فيها النزعات الدينية الإنسانية، وإلى دور جديد للعقل سماه بـ"العقل المنبثق" يهتم بإعادة التفكير في المسلمات، والتفكير فيما لم يفكر فيه القدماء أصحاب التراث العربي الإسلامي، ويتجنب إنتاج منظومة معرفية واحدة يدافع عنها، منعًا للسقوط في الدوجمائية (حالة من اليقين المطلق والجمود الفكري) بينما يؤمن بتنازع التأويلات المختلفة واستفادتها من بعضها.
انحاز أركون أيضا إلى جانب الدور الفلسفي الذي يمتزج بالفكر الديني، إذ يحتاج الفكر الديني إلى التزاوج مع إنتاج فلسفي قوي يخلق بداخله اتجاهات فكرية إنسانية شديدة الأهمية، ضاربا المثل بما حدث مع الفكر العربي الإسلامي وامتزاجه عن طريق الترجمات بالفلسفة اليونانية القديمة، فظهر أبو عثمان الجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، ومسكوية، وابن رشد الأندلسي وغيرهم، وفقا لوجهة نظر أركون، فإنها تعزز من دور العقل في مجال البحث المعرفي وتحرير طاقاته الإبداعية.
أركون، الذي ولد في فبراير العام ١٩٢٨، ورحل في سبتمبر من العام ٢٠١٠، أنجز مشروعًا كبيرًا، يعد من أهم المشاريع الفكرية التي نمت على ضرورة التحديث، من خلال قراءتها للتراث وللنص الديني بمنظور نقدي، يحرر الوعي الإسلامي من ملابساته التاريخية.
قيود تراثية ثابتة
رأى أركون أن عدة مستويات من القيود حاصرت المتكلمين والأصوليين المسلمين، وكانت سببا أصيلا في خروج نتاجهم الفكري بصورته التي وصل إلينا، وأنه من الواجب قبل دراسة نتاجهم الفكري الالتفات إلى هذه العوامل المؤثرة بالسلب على واقعنا المعاصر لأننا لم ننتبه إليها.
في كتابه "الفكر الأصولي واستحالة التأصيل.. نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي" شرح أركون هذه المستويات، أولها: "ما يمكن التفكير فيه للمتكلم، وهو متعلق بتمكن المتكلم من اللغة التي يستعملها، وبالإمكانيات الخاصة بكل لغة من اللغات البشرية التي اختارها المتكلم، كما أنه متعلق أيضا بما يسمح به الفكر والتصورات والعقائد والنظم الخاصة بالجماعة التي ينتمي إليها أو يخاطبها المتكلم، وبالفترة التاريخية من فترات تطور تلك الجماعة"، أي أن إمكاناتنا اللغوية وفترتنا التاريخية في أي عصر تؤثر على ما يمكن التفكير فيه.
ثانيها: "ما لا يمكن التفكير فيه، بسبب مانع يعود إلى محدودية العقل ذاته، أو انغلاقه في طور معين من أطوار المعرفة، مثلا ما كان ممكنا لأي فقيه أو متكلم أو فيلسوف طيلة العصور الوسطى وحتى فجر الحداثة أن يفكر في المواطنة بالمعنى الذي نعرفه حاليا أقصد المواطنة كفضاء يتساوى فيه جميع المواطنين بغض النظر عن أصلهم العرقي أو الدين أو المذهب أو الجنس". وهذا المستوى مثلا يتأثر بما تفرضه أو تمنعه السلطة الدينية أو السلطة السياسية أو الرأي العام إذا ما أجمع على عقائد وقيم قدسها وجعلها أساسًا مؤسسًا لكينونته ومصيره وأصالته.
ثالثها: "استمرار الفكر زمنا طويلا وهو يكتفي بترديد ما تسمح اللغة والنصوص والعقائد والرامزات الثقافية وإجماع الأمة ومصالح الدولة بالتفكير فيه، فإنه يتضخم ويثقل ويتراكم ويسيطر على العقل".
العقل المنبثق والدور التنويري
سجل أركون عدة ملاحظات حول العقل الجديد الذي سماه بالعقل المنبثق الذي لا ينفصل عما تلقاه من أعمال ومنظومات ومذاهب أنجزها العقل الديني والعقل الميتافيزيقي في الماضي لكنه يعيد النظر في جميع ما ورثه ولا يزال حيا عاملا في حياتنا المعاصرة بل وفي إنتاج مستقبلنا.
يؤمن أركون، أن العقل المنبثق يصرح بمواقفه المعرفية ويطرحها للبحث والمناظرة ويلح على ما لا يمكن التفكير فيه وما لم يفكر فيه بعد في المرحلة التي ينحصر فيها بحثه ونقده للمعرفة، مع الإقرار بحدود المرحلة من الناحية المعرفية أو محدوديتها فكل مرحلة تاريخية لها محدوديتها الفكرية لا محالة. أي أنه عقل يتجنب الوقوع في أخطاء الماضي، أو تكرار قيود التراث، لذا فهو عقل يحرص على الشمولية والإحاطة بجميع ما توفر من مصادر وثائق ومناقشات دارت بين العلماء حول الموضوعات التي يعالجها ولا يقنع بالمصادر المتوفرة في لغة واحدة.
ويقر بنظرية التنازع بين التأويلات بدلا من الدفاع عن طريقة واحدة في التأويل والاستمرار فيها مع رفض الاعتراضات عليها حتى لو كانت وجيهة مفيدة. أي أن طريقته الجديدة منفتحة على تأويلات أخرى مختلفة عنه لا تقصيها بل تتحاور وتتفاعل معها. كما يحذر العقل المنبثق من التورط مرة أخرى في بناء منظومة معرفية أصيلة ومؤصلة للحقيقة، لأنها سوف تؤدي لا محالة إلى تشكيل سياج دوجمائي مغلق من نوع السياجات التي سعى للخروج منها.
لغة معقدة وعصية على الفهم
لم يغفل أركون الانتقادات المتكررة بأنه يعرض أفكاره بطريقة معقدة وعصية على الفهم، والمطالبات المستمرة من البعض بضرورة تسهيل وتبسيط لغته للمتلقي، فلفت إلى أنه ليس من الإنصاف اتهام العقل المنبثق بتفضيل التعقيد على التبسيط، والتفكيك على إعادة البناء والإصلاح، والتجول في فضاءات البنيات المعرفية وبحور الأفهومات المجردة على التلقين التدريجي للمعلومات الأساسية في لغة سهلة متداولة بين الناس، هذا ما يتهمونني به.
وليس هناك مكان للرد على هذه الاعتراضات والاحتجاجات التي تعبر عن حقيقة لا تُنكر، وعن دور ما لا يمكن التفكير فيه وما لم يُفكر فيه بعد في الفكر العربي الإسلامي المعاصر. أي أنه تطلع باستمرار للنبش في المناطق العصية والمحظورة في الفكر التراثي، لذا فسوف تظل لغته عصية لأنها تطرح أمورا جديدة بالكلية.
والحل في نظره أننا نحتاج كتبا موثوقة في نفس المجالات وتكون متوافرة في الأسواق والمكتبات يسهل اقتناؤها ويزداد عدد قارئيها ومناقشيها ويقتبس منها الصحفيون وكل من يساهم في التعليم والتثقيف وتعميم المعرفة، عندئذ سيجد العقل المنبثق الأطر الاجتماعية المستعدة لتلقي إنتاجاته واتجاهاته.
أزماته مع الترجمة
شدد أركون على عدم التهاون في فهم معانيه وأفكاره المترجمة، إذ إن بعض العبارات يتم نقلها على غير حقيقتها، لذا فقد طالب القارئ أنه كلما اختلط عليك الأمر، وتشابهت العبارة أو غمضت أو تناقضت الأفكار، فأرجو أن تراجع النص الأصلي لحسم الخلاف ورفع الشكوك واجتناب التخمينات والإسقاطات.
في ذات الإطار، كانت معركته مع الشيخ محمد الغزالي الذي يمثل المنهج التقليدي الجامد، إذ طالبه الأخير بضرورة التوبة والرجوع عن أفكاره، بينما رد عليه أركون ردا عنيفا انحاز فيه لأفكاره التجديدية وطريقته المختلفة.
هاجمه الغزالي في مؤتمر وزارة الأوقاف بالجزائر عام ١٩٨٦ تحت عنوان "الصحوة الإسلامية والمجتمع الإسلامي"، ولقد ذكر أركون تلك الحادثة في كتابه الشهير "قراءات في القرآن"، معتبرًا ذلك الهجوم امتدادًا لنموذج تراثي عقيم وهو محاولة قتل كل محاولة تجديدية وإرجاعها للعقل الجمعي التقليدي، ضاربًا المثل بابن عقيل الحنبلي الذي جالَس المعتزلة ثم أعلن توبته متبرئًا منهم لينجو بنفسه، وبأبي الحسن الأشعري الذي عاش على مذهب المعتزلة ما قارب الأربعين عامًا ثم توبته عن ذلك المذهب ورجوعه.
ويعتبر أركون ذلك "بارديجم" أو نموذجًا فكريًّا لدى الجماعة الإسلامية التقليدية التي تفترض التوبة في كل محاولة تجديدية، مستنكرًا هجوم الغزالي عليه الذي طالب أركون بالتوبة والرجوع عن اعتقاده.
يقول أركون: "وقد تعرضت شخصيًّا لمحنة مشابهة أثناء انعقاد "ملتقى الفكر الإسلامي" في الجزائر عام ١٩٨٦، فقد هاجمني الشيخ المصري محمد الغزالي، وأمرني بالتراجع وبالتوبة عن عبارة وردت في كتابي "الفكر العربي" تقول: "القرآن خطاب ذو بنية أسطورية".
للأسف، إن الدكتور عادل العوا، وهو مترجم الكتاب إلى العربية، ترجم العبارة على هذا النحو: "القرآن خطاب أسطوري البنية"، وهو فيلسوف يجهل الفرق بين كلمة أسطورة وبين كلمة قصص، وكان ينبغي أن يترجم العبارة على هذا النحو: "القرآن خطاب قصصي البنية".
ردًا على إنذار الغزالي الذي وجهه إليّ بكل عنف أمام جمهور الحاضرين المحتشدين في المؤتمر، لم أُقدم توبتي واعتذاري، إنما أعطيت حارس العقائدية الدوجمائية المتحجرة درسًا في علم اللسانيات، وكيفية الترجمة، والتفسير الديني، والأنثروبولوجيا، وقد احتفظ كثيرون من الجزائريين بذكرى تلك المواجهة الصعبة التي انتهت لمصلحة الضحية.